يعتقد فلاسفة التاريخ والاجتماع أن الحضارات تسقط وتنهار عندما تفقد روحية القيم التي شكلت كنه عصبيتها في قيامها. ويعتقدون أيضاً أن الحضارات يقتلها عاملان الحروب والاحتلالات الواسعة الأرجاء والديون. هذا هو مصير الحضارات السابقة الولايات المتحدة الأمريكية التي تصيبها الآن نفس العدوى. لهذا فإن المتعجلين بالحكم على الجمهورية الإسلامية في عيد انتصارها الخامس والأربعين يخطئون خطأً جسيماً عندما يراهنون على انقسامات داخلية أو على عقوبات دولية ويظنون أنها تؤدي إلى إضعاف هذه الدولة المتقدمة والطموحة.لم يكن وضع الثورة عندما أعلنها مؤسسها الإمام الخميني الراحل بأحسن مما هي عليه اليوم من حيث الظروف الإقليمية والدولية. يومها،
لم يكن الإتحاد السوفياتي، ند الولايات المتحدة الأوحد، متشوقاً لرؤية دولة إسلامية على حدوده، ولم تكن الولايات المتحدة أقل غضباّ على هذه الدولة مما هي اليوم، ولم يكن الوضع العربي أقل سوءاَ من حيث الانحياز لأميركا مما هو اليوم. والثورة لم تكن متأكدة من نفسها كما هي اليوم، سوى ما كان يعتمر نفوس قيادتها وخاصة الإمام الخميني، من ثقة بالله عارمة وبالنفس الإنسانية العازمة المريدة. اليوم أصبحت الثورة والدولة متجذرة في عقل وإرادة الجماعة وسلوكها، وفي حركة المجتمع نحو أهدافه في الحرية والاستقلال والتقدم؛ والثورة تعمقت بأقوال وأفعال ودماء قادتها وشعبها، وخاصة مؤسسها الإمام (قده) والمؤسسات الناشئة.
مضت أربع عقود ونيف تحملت خلالها هذه الثورة من إفكٍ وتشهير ودعاية مضادة وحروب عسكرية وتفجيرات داخلية وخطف ومقاطعة وتدبير مؤامرات. لم ترضخ الثورة ولا فت في عضدها ولا فترت عزيمتها، قيادة وشعباً. من صحراء طبس كارتر إلى حرب "قادسية صدام" التي لم يبق دولة لا في الشرق ولا في الغرب، ما ندر، إلا وشاركت إما بالتمويل أو بالدعاية أو بالأسلحة أو بالمعلومات والتجسس لتدمير الثورة اليانعة. واستمرت العقوبات والهجومات المتنوعة ومحاولات إيجاد الفتن الداخلية بين القوميات والمذاهب والمعتقدات.
فمع كل إدارة أميركية، التي ناداها الإمام الخميني الشيطان الأكبر، كان يوجد شيطان جديد وشكل مبتكر من الهجوم على الثورة وقياداتها وجيشها وكفاءاتها وعقولها. إلا أن الثورة كبرت وتعمقت أهدافها، والزرع أينع وبدأت ثماره تقض مضاجع الذين يكيدون للثورة وشعاراتها، التي أبقت ثقافة الثورة متأججة، وأوجدت الدولة التي تظلل وتحمي قيم وأهداف وشعارات الثورة.
يقال أن الدولة تقبر الثورة، أو أن الثورة تأكل أبناءها. في جمهورية إيران الإسلامية كان رجال الدولة يأتون تواقين ليحموا ويعمقوا طموحات الثورة، وكان رجال الثورة يأتون ليقيموا مؤسسات الدولة ويعمقوا تجربتها لتكتسب معان جديدة مبدعة في ظل جو خلاق ما بين الشعب والثورة والقيادة.
وذلك على الرغم مما يحكى ويشاع عن انقسامات هذه الأيام في القيادة والقاعدة. ربما يحتاج البعض إلى دروس في التاريخ وعن العقل السياسي والحضارة الإيرانية ليعلم أنه لا خطر إطلاقا على الثورة ولا على الدولة. فالخلاف ليس حول الدولة وطموحاتها المشروعة - خذ مثلا عن الموقف ألإجماعي من الملف النووي – وإنما حول المدى في علاقة الدولة بشعارات الثورة. ربما انساق البعض وراء ما يسعى الأميركي لإشاعته واشتهائه، لأن معظم هؤلاء ينطلقون من نظرة ورغبة سياسية أميركية-إسرائيلية وهمية مشتركة . ومن يراجع الصحف الأميركية منذ قيام الثورة سيتأكد أن الأميركي كان دائماً يريد أن يشيع هذه الأجواء وذلك كي ينفضَ عن هذه الثورة من يشعر بجدواها.
الهدف المعلن والمضمر للولايات المتحدة والكيان الصهيوني –والغرب عامة هو إرضاخ الجمهورية وجعلها تتخلى عن قيم الثورة، مع الوعد بمساعدتها لتبقى دولة تهتم بنفسها بعيداً عن الوضع الإقليمي(!) من وجهة نظر أميركا، على إيران أن تنأى بنفسها عن القضية الفلسطينية وهموم وشؤون المسلمين والمستضعفين، وأن تكون قوية لذاتها وليس للتأثير على السياسات الإقليمية والدولية. كيف لا يجن جنون الصهاينة والمحافظون الجدد في الولايات المحتدة عندما يصرّ القادة في الجمهورية الاسلامية أن تكون شريكا في القرارات الدولية وبخاصة تلك التي تتعلق بمصائر الشعوب الإسلامية والمستضعفة، أو أن فلسطين يجب أن تعود إلى أصحابها الشرعيين.
يدركون تماما أن الجمهورية الإسلامية الصادقة في طروحاتها وشعاراتها وملتزمة بمضامين ثقافتها وثورتها، والتي لم تكن يوماً معزولة عن معتقداتها الأساسية ونظرتها إلى وظيفة الإنسان في الحياة وما بعدها، هي من يمنعهم من الإطباق النهائي على أمم المنطقة. الإشكالية الحقيقية في العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وغيرها من دول الغرب وخاصة أميركا، أن عنصر الثقافة الذي تنبع منه حركة المجتمع الإيراني سيؤدي إلى إيجاد البديل المقنع والحضاري لشعوب فقدت النموذج الفكري والسياسي.
هذا العنصر القائم على مبدأ الحق والقوة ليس هو ما يحرك العقل السياسي الأميركي. ما يحرك العقل السياسي الأميركي هو القوة التي تريد أن تصنع من الباطل حقا. وعندما طرح صامويل هنتنغتون مقولته الشهيرة في صراع الحضارات (إقرأ ثقافات)، كان يعني هذا الموضوع تحديدا. المشكلة الأخرى أن العقل العقائدي والسياسي العربي قد تم "تجريفه" (بحسب محمد حسنين هيكل)، ووضع في بعض خلاياه التكنولوجيا الغربية وبقايا ستاتيك ضبابي غائم عن الذات غير واضحة المعالم ولا الوجهة. من هنا تأتي مشكلة معظم هؤلاء-الأقربين والأبعدين - في عدم إدراك أهمية الحوار الندّي مع حضارة ناشئة لا يجذبها إطلاقا الخوف من العدو أو الخصم، بل ربما يحفزها على المواجهة بشتى الصور غير المتوقعة من العقل التقليدي.
إن الجمهورية الإسلامية كحضارة صاعدة، وكوريثة لحضارات حفرت في التاريخ صفحات عميقة ومؤثرة جداً، لا زالت في طور الشباب والفعل، بينما من يواجهها هي إما "حضارات" في طور الضعف والأفول، أو شعوب لم تشعر ولم تشارك في صناعة حضارات أو كانت سبباً في خراب أخرى، أو لم يخطر لها التحضر على بال.
إن من يحلمون بشق الدولة أو الانقلاب عليها أو تراجع قياداتها عن شعاراتها الثورية هو واهم لأن عناصر التاريخ الأولية تحققت في جزء من الثورة وهي في طور الاكتمال في دورة الدولة. إن ثورة كالثورة الإسلامية في إيران هي بداية لاكتمال صورة التشكل التاريخي لحضارة تأسست لتكون ثورة للعامة ودولة لعامة الخاصة. فشعارات الثورة هي ملك للشعوب، وخاصة المستضعفة، والدولة لا تستطيع إلا أن ترعى هذه الشعارات التغييرية بكثير من الصلابة وقليل من المساومة خاصة وأن الإمام الخميني عندما سُئل عن الفرق بين إنقلاب "مصدق" والثورة التي دعا إليها قال أن تلك كانت ثورة سياسية تساوم وتفاوض على حقوق، فتمكن الأمريكيون من الإنقلاب عليها بينما هذه ثورة حق ضد الباطل ولا يمكن الإنقلاب عليها. هذه الروح الثورية التي تجد تمثلاتها في السلوك السياسي والتحدي الثوري لقيادة الثورة في الزمن الراهن لا يمكن لعقل ساذج يتمتع بقوة عسكرية طاغية فقط أن تضعف –ناهيك عن أن تزيل- هذه الثورة والدولة.
ومهما حاول الأمريكيون وحلفاؤهم أن يشددوا العقوبات على بعض مؤسسات الثورة وخاصة الحرس الثوري والقوى الفاعلة، فإن هذا يقوي الحرس ويقوي شعارات الثورة في نفوس أفراده.
إن الأرضية الإقتصادية والثقافية المساعدة لقوى التغيير في الجمهورية الإسلامية يقابلها قوى ضعف وفراغ في منطقة شهدت شعوبها على مدى قرون من الزمن موجات استعمارية متتالية حتى ظن البعض أن الاستعمار قدر حتمي و"قابلية نفسية" لا فكاك عنها.
أتت الثورة الإسلامية لتوقظ العقل التحرري والسلوك التغيري المستند إلى الاعتماد على الذات في طرد المستعمر ومجابهة المستكبر، في معركة لا زالت رحاها دائرة بين شرق أوسط أمريكي صهيوني وشرق أوسط لشعوبه بمختلف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والفكرية. من هنا كانت دعوة الإمام الخميني إلى الثورة لمواجهة الاستكبار من خلال الارتباط بإيمان الشعوب بذاتها ورفض التبعية والتسلط أكانوا سنة أو شيعة عرباً أو إيرانيين أو أتراك، مستندين إلى إيمانٍ واحد وثقافة واحدة لأن القوى المستكبرة هي في نهاية المطاف ملة واحدة.
لقد عبر الإمام الخميني عن طموحات الشعوب المستضعفة كافة، كما تعبر اليوم قيادة الثورة، خاصة في دفاعها عن حقها في امتلاك عناصر القوة والتدخل في شؤون تعنيها وعلى حدودها وفي صلب ثقافتها.
هل تستطيع إيران أن ترضى باتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب؟ هل تستطيع أن ترضى بتشويه المقدسات الإسلامية المشتركة؟ وإن رضي بعض الحكام المرتهنين. فكيف يحق لأمريكا التي تبعد عشرات آلاف الأميال التدخل في منطقتنا وترسم حدودها وسياساتها؟ ولا يحق لدولة وشعب من نسيج المنطقة تاريخاً وثقافة أن يتحدث عن حق وباطل في اغتصاب فلسطين مثلا، ويأتي المحتل ويطوقه ويقيم إلى جواره في العراق ويستهدف وجوده ويبقى مكتوف الأيدي(؟!).
نعم ، إن الذي يبيح لأمريكا التدخل هو القوة التي تمتلكها، فيسوغ بعض القادة العرب وغير العرب لها هذا التدخل بالقول أنها تمتلك كل أوراق اللعبة. ولا أحد يسوغ لإيران "التدخل" حفاظاً على الاستقلال والسيادة.
ولكن أين الاستقلال وأين السيادة؟ فإن قامت إيران بمساعدة الشعب الفلسطيني يصبح الحديث عن تدخل "فارسي" و "شيعي"! هل ساعدت الأموال العربية أو الإعلام العربي أو السياسات العربية قضية الحق الفلسطيني "العربية"؟ أم أن الأخوة أضحت بلا مضمون؟
إن الجينات الثورية الإيرانية ومضامينها الثقافية، والتي بدأت تتسرب إلى عالم شعب عانى من سبل طاعة الظالم على مدى قرون وظهرت ثمارها في "طوفان الأقصى" الذي جاء بعد عقود من التخطيط والنضال والتضحية، يجب أن تكون نقطة التحول اللانهائي لشعوب مأزومة ومهزومة نتيجة لتقاليد أتت عليه بشكل نهائي. فلا العروبة الحاكمة ولا الأمركة المتسلطة والمحتلة ولا الأوربة الاستعمارية استعادت حقا سليبا أو أطلقت حرية عانقتها سجون الأوطان المرتهنة، لا بل غرست قيم القمع والهيمنة والتسلط والتفرقة وطبائع الاستبداد والاستعباد.