تتوالى التحليلات والقراءات الاستشرافية بشأن التوقيت الاستراتيجي للعملية وطبيعتها ومكوناتها العسكرية، مع تمحور السؤال الجوهري حول المستفيدين الرئيسيين والقوى المحركة في الكواليس الدولية، وتتصدر الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وتركيا قائمة الأطراف المستفيدة من هذا التحول الجيوسياسي، حيث تتباين مقارباتهم الاستراتيجية وفقاً لمنظومة مصالحهم الخاصة وحساباتهم الإقليمية.
وتشير الدلائل القطعية والمؤشرات الميدانية المتعددة، إلى أن الجانب التركي قد اضطلع بدور محوري في تنفيذ هذه العملية، سواء عبر الدعم المباشر أو من خلال الإحاطة المسبقة بتفاصيلها وأبعادها الاستراتيجية.
تمتلك أنقرة منظومةً متكاملةً من المصالح الاستراتيجية في المشهد الراهن، يتصدرها طموحها التاريخي المتجذر في السيطرة على حلب، المدينة ذات الأهمية الجيوسياسية الفائقة، وتسعى تركيا إلى ترجمة هذا النفوذ التاريخي إلى واقع ملموس، من خلال إحكام السيطرة عليها عبر الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة.
وفي الوقت الذي تستشعر فيه أنقرة تفوقاً تكتيكياً في المعادلة السورية الراهنة، تبرز جملة من الاعتبارات الاستراتيجية الجوهرية التي تستدعي تحليلاً معمقاً وقراءةً متأنيةً للمشهد:
1- على الرغم من المكاسب التكتيكية العاجلة التي تحصدها أنقرة من الوضع الراهن، إلا أن الملف السوري يتخطى حدود الإطار الإقليمي المحصور، ليتجلى في أبعاد دولية ذات تأثيرات استراتيجية شاملة، وفي هذا السياق الدقيق، تجد تركيا نفسها - بإرادة أو بغير إرادة - متورطةً في المخطط الأمريكي-الصهيوني المحكم، والذي يستهدف تقويض أركان حكومة بشار الأسد، وإغراق سوريا في دوامة جديدة من الاضطرابات الاستراتيجية.
وبانتهاجها هذا المسار، تقوم أنقرة - عن قصد أو غير قصد - بتحجيم دورها الاستراتيجي، لتتحول إلى مجرد دولة وكيلة أو أداة تنفيذية للمخططات الأمريكية والإسرائيلية، منسلخةً بذلك عن موقعها كقوة إقليمية مستقلة وفاعلة.
2- تتزامن هذه التحركات مع لحظة تاريخية فارقة في المواجهة المحتدمة بين محور المقاومة والمحور الصهيوني-الغربي، ما يُلحق ضرراً استراتيجياً بالمنظومة المتكاملة للمقاومة، بدءاً من سوريا، مروراً بحزب الله اللبناني، وصولاً إلى عمق المقاومة الفلسطينية، وسيُسجل التاريخ هذا المنعطف كنقطة سوداء في السجل السياسي لأردوغان، مؤدياً إلى تصدع جوهري في مستوى الثقة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الأمر الذي سينعكس سلباً على منظومة مصالحه الجيوسياسية في المدى البعيد.
ويتعين على أردوغان استحضار الدروس المستفادة من تجاربه التاريخية، سواء في مواجهة التهديدات الانقلابية (التي اتخذت إيران منها موقفاً مبدئياً ثابتاً بالمعارضة، وستواصل هذا النهج)، أو في الاضطرار للتسليم بالإخفاق في الملف السوري والقبول بالتفاهمات الاستراتيجية مع المحور الإيراني-الروسي، فهذه السيناريوهات الجيوسياسية قابلة للتكرار في المستقبل المنظور، وفي تلك المنعطفات المصيرية، سيكون في أمس الحاجة إلى الرصيد الاستراتيجي من الثقة والدعم من قوى الجوار الإقليمي.
3- يُشكّل انتقال العناصر الإرهابية من إدلب وانتشارها في الشمال السوري، تحولاً خطيراً سيؤدي حتماً إلى تعزيز قدراتها العملياتية، وقد يتحول هذا "المارد المتحرر من قيوده"، إلى تهديد يتجاوز نطاق سيطرة داعميه، ليتحول إلى شبح يُهدد أمنهم القومي، فالعقلية الإرهابية المؤدلجة لا تعرف سوى لغة العنف وزعزعة الاستقرار الاستراتيجي، وما تمارسه اليوم في الساحة السورية قد يمتد غداً إلى فضاءات جيوسياسية أخرى، مُكرِّسةً نهج الإرهاب والعمليات الانتحارية وإشاعة الفوضى.
وفي ظل غياب الضمانات الجيوستراتيجية الرادعة لتمدد هذه العناصر الإرهابية أو تقييد طموحاتها التوسعية، يكتسب هذا التهديد حساسيةً استثنائيةً بالنسبة لأنقرة، وخاصةً مع وجود شريط حدودي يمتد لمسافة ٩١٠ كيلومترات مع سوريا.
4- يشكّل القطاع السياحي بمنظومته المتكاملة، داخلياً وخارجياً، ركيزةً محوريةً في البنية الاقتصادية التركية، وفي حال تحوُّل المسار الاستراتيجي للعناصر الإرهابية نحو تنفيذ مخططات تخريبية تستهدف تقويض الاستقرار الجيوسياسي في دول الجوار الإقليمي، فإن التداعيات الاستراتيجية الأشدّ وطأةً ستطال، بالضرورة، الدولة التي تعتمد في ركائزها الاقتصادية الأساسية وبنيتها المالية على التدفقات السياحية، والإيرادات المرتبطة بها.
وعلى الرغم من أن منظومة الاستقرار والهدوء تمثّل شرطاً جوهرياً للنمو والازدهار الاقتصادي لجميع دول المنطقة، إلا أن بعض الدول يتعين عليها إيلاء هذا الملف حساسيةً استثنائيةً مضاعفةً، نظراً لارتباطه المباشر بأمنها الاقتصادي القومي.
5- تمتلك الدولة السورية نسيجاً متيناً من العلاقات مع المكون الكردي في المنطقة، وقد أفضت المعطيات الجيوسياسية الراهنة إلى صياغة ترتيبات محكمة، تقضي بتفويض إدارة قطاع حيوي من الشمال السوري للعناصر الكردية، وذلك في إطار تنسيق مباشر مع دمشق، وهذا التدبير الاستراتيجي يتيح للدولة السورية تركيز قدراتها العملياتية على مواجهة التهديدات الإرهابية، كما أدى إلى تعزيز النفوذ الاستراتيجي السوري على المكون الكردي.
وفي المقابل، يحمل المكون الكردي في ذاكرته الجمعية إرثاً تاريخياً ثقيلاً من الإشكاليات العميقة والمعقدة مع الدولة التركية، ما يشكّل دافعاً قوياً ومحفزاً عملياتياً للمواجهة مع القوات التركية.
تُشكّل المحددات المستعرضة آنفاً، منظومةً جيوسياسيةً متكاملةً ومترابطةً من العوامل الحاكمة، التي يتعين على صناع القرار في أنقرة إيلاءها الأولوية القصوى في معادلاتهم الاستراتيجية وحساباتهم المستقبلية، ويأتي ذلك في إطار السعي الحثيث لتمكين دول المنطقة من بلورة معادلة إقليمية متوازنة ومستدامة، تؤسس لمنظومة أمنية متكاملة في الفضاء الجيوسياسي الإقليمي.