ويؤكد المحللون والخبراء الاستراتيجيون الصهاينة أن المضي قُدماً في هذه المواجهة مع حزب الله، في ظل القدرات العسكرية الفائقة التي أظهرها والضربات النوعية التي وجَّهها - والتي أدت إلى تقويض جميع المكاسب التكتيكية للكيان الصهيوني وإغراقه في المستنقع اللبناني - سيُكلِّف الكيان المحتل ثمناً باهظاً لا يُمكن احتماله.
الکيان الإسرائيلي أمام خيارين لا ثالث لهما: وقف إطلاق النار أو الغرق في المستنقع اللبناني
في هذا السياق، كشفت "أورنا مزراحي"، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني، عن مأزق وجودي يواجهه الكيان الإسرائيلي، مؤكدةً أن المخرج الوحيد يكمن في التوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار مع لبنان، وأوضحت أن هذه الاتفاقية ينبغي أن تتضمن تحولات جوهرية تُفضي إلى صياغة معادلة أمنية جديدة على طول الحدود، مع احتفاظ الكيان الصهيوني بهامش المناورة العسكرية في حال تعثر تطبيق القرار الأممي 1701.
وأبرزت الخبيرة الأمنية الصهيونية ضرورة الإبقاء على القوات الدولية (اليونيفيل)، كركيزة أساسية في المعادلة الأمنية على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، محذرةً من مغبة التفريط بهذا الوجود الدولي، وشددت على أن نهاية المواجهات يجب أن تُفضي إلى ترتيبات أمنية، تكفل للكيان المحتل تحصين حدوده الشمالية.
وفي سياق متصل، فجَّر "يوسي يهوشع"، المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، قنبلةً مدويةً في مقاله المعنون "المأزق الاستراتيجي: وقف إطلاق النار أو التورط في حرب استنزاف وحزام أمني"، حيث وجّه سهام النقد اللاذع إلى الأداء المتخبط للمؤسستين العسكرية والسياسية في الجبهة الشمالية، ونقل عن ضابط رفيع المستوى في جيش الاحتلال تساؤلاً استنكارياً: "أطلقنا عمليةً بريةً في لبنان بذريعة استعادة الأمن للمستوطنات الشمالية، فهل حققنا هذا الهدف المزعوم؟"
خمسون ألف جندي إسرائيلي عجزوا عن احتلال ولو قرية واحدة في لبنان
يؤكد الكاتب الصهيوني، مستشهدًا بتصريحات ضابط في جيش الاحتلال، أن القوات الإسرائيلية، رغم أسابيع من المساعي الحثيثة، فشلت في السيطرة على أي من قرى جنوب لبنان.
ويضيف إن "إسرائيل" تقف الآن على مفترق طرق: إما الرضوخ لوقف إطلاق النار، أو المجازفة بالغرق في مستنقع حرب استنزاف طاحنة، ما سيفرض عليها إنشاء حزام أمني يتيح لسكان المستوطنات الشمالية المهجرين العودة إلى ديارهم.
ويمضي المقال في تحليله قائلاً: بيد أن الحقائق على أرض المعركة، قد جاءت مناقضةً تمامًا لتوقعات "إسرائيل" وحساباتها، فبعد شهر كامل من المواجهات البرية الضارية، عجزت خمس فرق عسكرية إسرائيلية، معززةً بلواء احتياط، عن تحقيق أي اختراق أو ترسيخ مواقع في عمق الأراضي اللبنانية الجنوبية، إننا نتحدث هنا عن قوة قوامها خمسون ألف جندي إسرائيلي - أي ما يعادل ثلاثة أضعاف القوات التي زُجّ بها في أتون حرب يوليو 2006.
لماذا تتعثر القوات الصهيونية في جنوب لبنان؟
كشفت المصادر الإعلامية العبرية عن حقيقة مذهلة، فرغم ما يمتلكه جيش الاحتلال الإسرائيلي من ترسانة نارية ضخمة، وعلى الرغم من الاستخدام المفرط لسلاح الجو في إسناد القوات البرية، إلا أنه عجز عجزاً تاماً عن السيطرة حتى على قرية واحدة في جنوب لبنان.
ويكمن سر هذا الإخفاق الاستراتيجي في التكتيكات الميدانية البارعة التي يتبناها حزب الله، والتي تقوم على منظومة متكاملة من خطوط الدفاع - ما بين ثابتة ومتحركة - مدججةً بأنواع متطورة من الصواريخ الدقيقة التي تستهدف بكفاءة عالية العناصر والآليات المدرعة والدبابات الإسرائيلية.
وتمضي صحيفة "يديعوت أحرونوت" في تحليلها قائلةً: يتفوق حزب الله في تطبيق استراتيجية التخفي والتمويه، حيث يجد الجيش الإسرائيلي نفسه عاجزاً في أغلب الأحيان عن تحديد مصادر النيران التي تباغت قواته بشكل مستمر.
إن فشل الجيش الإسرائيلي في اختراق العمق اللبناني، يُعزى إلى استحالة رسم خارطة دقيقة لتموضع قوات حزب الله، إذ تُفاجَأ القوات الإسرائيلية في كل محاولة توغل، بوابل جهنمي من النيران، وما يضاعف حدة المأزق الإسرائيلي، هو الاستخدام المبتكر لسرب من الطائرات المسيرة الصغيرة التي تستعصي على المواجهة.
وفي سياق متصل، يدلي "جاك نيريا" - العقيد الاحتياط في جيش الاحتلال والخبير الاستخباراتي المخضرم الذي تولى الملف اللبناني منذ عام 1978، والذي شغل أيضاً منصب مستشار "إسحاق رابين"، رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق - بتصريح لافت لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يقول فيه: "تعتمد قوات حزب الله تكتيكاً محكماً يقوم على استدراج القوات الإسرائيلية، حيث تسمح لها بالتقدم في البداية نحو كمائن معدة بإتقان، لتنقض عليها بعد ذلك وتسحقها سحقاً".
خسائر الکيان الإسرائيلي في لبنان ستفوق حصيلة حروبه مجتمعةً
في تحليل مثير للجدل، يكشف الضابط الصهيوني عن مشهد قاتم قائلاً: "نحن نواجه أشدّ السيناريوهات قتامةً في تاريخ قواتنا العسكرية، ولا سيما وحدات النخبة كلواء غولاني وفرق الكوماندوز المختارة، فالتكلفة البشرية لأي توغل عسكري في الأراضي اللبنانية، ستتجاوز بشكل صادم إجمالي الخسائر البشرية التي تكبدها جيش الاحتلال في جميع حروبه، منذ أواخر الأربعينيات وحتى المواجهة الراهنة، وهذا يضع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أمام معضلة استراتيجية وسيناريو مرعب غير مسبوق".
ويأتي تحليل "يوآف ليمور"، المحلل الاستراتيجي في صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية، ليكشف النقاب عن المأزق الإسرائيلي، موضحاً أن الكيان الصهيوني قد حدّد ثلاثة شروط جوهرية للموافقة على وقف إطلاق النار في الجبهة الشمالية: أولاً: التنفيذ الحرفي والشامل للقرار الأممي 1701، مع التركيز على تحجيم القدرات العسكرية لحزب الله، ثانياً: انتشار واسع النطاق للجيش اللبناني مع تعزيزات كبيرة من قوات اليونيفيل في المنطقة الجنوبية، وثالثاً: منح القوات الإسرائيلية صلاحيات مطلقة للرد في حال أي خرق من جانب حزب الله.
ويستطرد الخبير الاستراتيجي في تحليله: "تسعى تل أبيب جاهدةً للحصول على تفويض مطلق من القوى الوسيطة، وتحديداً واشنطن وباريس، لتحركاتها المستقبلية، بيد أن لبنان، وفي إطار حفاظه على سيادته الوطنية، يرفض قطعياً الإذعان للشروط الإسرائيلية، ورغم تصاعد الأصوات داخل المؤسسة الإسرائيلية، من وزراء ومسؤولين أمنيين، المطالبة بتشديد الضغط على حزب الله، إلا أن الواقع الميداني يؤكد أن استمرار المواجهة سيكبّد "إسرائيل" خسائر فادحة في الأرواح، وسيتفاقم الوضع بشكل دراماتيكي مع اقتراب الشتاء".
ويختتم تحليله بخلاصة قاتمة قائلاً: "إن استمرار هذه المواجهة سيؤدي إلى تعميق العزلة الدولية لإسرائيل، وسيفاقم من أزمتها الاقتصادية، مع استمرار تأجيل عودة المستوطنين إلى المستوطنات الشمالية لأجل غير مسمى".
حتى مع انتهاء الحرب، لن ينعم الإسرائيليون بالأمن في الشمال
في تطور يعكس عمق الأزمة الأمنية المتفاقمة، كشف "بيني بن موفخار"، رئيس ما يُسمى المجلس المحلي في مستوطنة "مفووت حرمون" شمال الأراضي المحتلة، عن معضلة استراتيجية خطيرة، مؤكداً أن مجرد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان، لن يكفل عودة المستوطنين إلى المناطق الشمالية، مشيراً إلى حاجة الكيان الإسرائيلي لما لا يقلّ عن نصف عقد لاستعادة ما يصفه بـ"الوضع الطبيعي".
وفي تصريحات تعكس حجم المأزق الأمني، أقر هذا المسؤول الصهيوني بانعدام تام للأمن في المنطقة الشمالية، محذراً من مخاطر محدقة تتهدد المستوطنين في مستوطنات المطلة والمنارة وكفار يوفال ومرجليوت، التي باتت تحت مرمى نيران حزب الله.
وفي سياق متصل، عبّر عن مخاوف عميقة من قدرات حزب الله العسكرية، مؤكداً أن صاروخاً واحداً كفيل بإحداث خسائر فادحة وإصابات بليغة في صفوف الإسرائيليين، مستشهداً بالحادثة التي شهدتها مستوطنة المطلة يوم الخميس الماضي، والتي أسفرت عن مصرع سبعة إسرائيليين في ضربة صاروخية محكمة.
وفي تقييم عسكري، أدلى الجنرال "نوعم تيفون"، القائد السابق للواء الشمالي في جيش الاحتلال والضابط الاحتياطي، بتصريحات مثيرة حول الضربة الصاروخية التي نفذها حزب الله صباح الخميس الماضي في مستوطنة المطلة، واصفاً تداعياتها بـ"المؤلمة للغاية" بعد سقوط سبعة قتلى إسرائيليين.
وفي حوار مع قناة "كان" الإسرائيلية، شدّد الجنرال الصهيوني على أن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله بات ضرورةً ملحةً، لافتاً إلى استعادة الحزب لثقته العملياتية، محذراً من أن استمرار المواجهة سيفضي حتماً إلى هجمات أشدّ فتكاً وخسائر أفدح في صفوف قوات الاحتلال.
واختتم تصريحاته بتحذير خطير، مشيراً إلى أن الإخفاق في التوصل لوقف إطلاق النار وتسوية الأوضاع الراهنة، سيؤدي حتماً إلى تورط "إسرائيل" في المستنقع اللبناني، ما سيكبدها تكاليف باهظة، وخاصةً على صعيد الخسائر البشرية، فضلاً عن استحالة عودة النازحين إلى المناطق الشمالية.