ومن الجدير بالذكر أن الزيارات التي يقوم بها كبار المسؤولين الأمنيين عادةً ما تتسم بالهدوء والبعد عن الأضواء الإعلامية، إلا أنها في حقيقة الأمر تكتسي أهميةً بالغةً وتنطوي على أجندات حساسة ذات تأثير عميق، وفي ضوء التطورات الإقليمية الراهنة، ولا سيما مع اشتعال فتيل الحرب في لبنان وما نجم عنه من تداعيات خطيرة، يتعين النظر إلى زيارة مستشار الأمن القومي العراقي لطهران والمباحثات التي أجراها، باعتبارها تتخطى حدود المشاورات الدبلوماسية الاعتيادية.
بيد أن المعلومات المسربة إعلامياً حول فحوى المباحثات بين الأعرجي والمسؤولين الإيرانيين، تقدّم مؤشرات جلية على المحاور الرئيسية التي تناولتها المشاورات بين الجانبين، وتلقي الضوء على الطبيعة الحقيقية لهذه الزيارة المهمة.
برزت أهم التصريحات الدبلوماسية خلال اللقاء الذي جمع الأعرجي بوزير الخارجية الإيراني عراقجي، حيث أكد المسؤول العراقي رفيع المستوى على الالتزام الراسخ لبغداد بحماية الأمن القومي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي هذا السياق، صرّح الأعرجي: "أن العراق يعتبر أمن إيران ركيزةً أساسيةً لأمنه الوطني، وسيتصدى بحزم لأي محاولات تستهدف زعزعة الاستقرار الإيراني، وذلك من خلال إجراءات صارمة تتخذها الحكومة المركزية بالتنسيق مع سلطات إقليم كردستان العراق".
وفي سياق متصل، عقد الأعرجي جلسة مباحثات مع علي أكبر أحمديان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، تناولت بالتفصيل الاتفاقية الأمنية الثنائية، وقد شدد الجانبان على ضرورة تسريع وتيرة تنفيذ بنود هذه الاتفاقية الاستراتيجية، مع إيلاء اهتمام خاص لمنع وجود أنشطة العناصر الإرهابية في المناطق المتاخمة للحدود الغربية الإيرانية.
وتُوّجت المباحثات بتوافق رفيع المستوى بين الطرفين على توسيع نطاق الاتفاقية الأمنية وتعزيز أطرها، بحيث تشمل طيفاً أوسع من التهديدات المشتركة، بما في ذلك التحديات ذات الأبعاد العسكرية والأمنية والاقتصادية، ما يرسّخ أسس التعاون الاستراتيجي بين البلدين في مواجهة المخاطر المحتملة.
دبلوماسية بغداد تحت الضغط الأمريكي
في خضمّ تصاعد حدة التوترات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، وفي ظل ما تتناقله المصادر الإعلامية عن استعدادات إيرانية وشيكة لتنفيذ عملية "الوعد الصادق 3" في الأراضي المحتلة، تأتي زيارة الأعرجي في توقيت استراتيجي بالغ الدقة والحساسية.
وتكتسب هذه الزيارة أهميةً استثنائيةً في ضوء ما كشفت عنه منابر إعلامية أمريكية، على غرار "أكسيوس" و"واشنطن بوست"، من تسريبات تشير إلى عزم طهران على اتخاذ الأراضي العراقية منطلقاً لعملياتها المرتقبة ضد الكيان الصهيوني.
وفي أعقاب هذه التسريبات الإعلامية الغربية، بادر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى إجراء اتصال هاتفي عاجل مع رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، حيث وجّه رسالةً مفادها بضرورة اتخاذ بغداد إجراءات حازمة لمنع أي عمليات عسكرية تُشن من أراضيها، في إشارة ضمنية إلى التحركات الإيرانية المحتملة.
وفي هذا السياق، يبدو جلياً أن زيارة مستشار الأمن القومي العراقي إلى طهران، تتمحور بصورة رئيسية حول محاولة احتواء التصعيد المتنامي بين إيران والكيان الصهيوني، مع سعي حكومة السوداني الحثيث للنأي بالعراق عن تداعيات هذا الصراع المحتدم.
وفي حين تؤكد السلطات العراقية التزامها بمنع استخدام أراضيها كمنصة لاستهداف إيران، إلا أن الوقائع على الأرض خلال العدوان الصهيوني الأخير، كشفت عن استباحة سافرة للمجال الجوي العراقي من قبل المقاتلات الإسرائيلية.
وفي هذا الصدد، يكشف حبيب الله سياري، نائب منسق الجيش الإيراني، عن حقيقة صادمة مفادها بأن المجال الجوي العراقي ظل لمدة 25 يوماً متواصلة تحت تصرف الكيان الصهيوني وحلفائه، متربصين فرصة سانحة لتوجيه ضربة لإيران.
وعليه، يتضح جلياً أن الحكومة العراقية لم تنجح على أرض الواقع في الوفاء بالتزاماتها تجاه صون الأمن القومي الإيراني، والحيلولة دون استغلال أراضيها وأجوائها للمساس بالسيادة الإيرانية، ورغم الثقة الراسخة التي توليها طهران لحسن نوايا الجانب العراقي ومعارضته المبدئية لهذا العدوان، إلا أن المواقف السياسية المعلنة لم تعد كافيةً في ظل المعطيات الراهنة، وتتطلع الجمهورية الإسلامية إلى ترجمة عملية للاتفاقية الأمنية المبرمة بين البلدين، بما يضمن اجتثاث كل مصادر التهديد الخارجي المنطلقة من الأراضي العراقية.
تبرز زيارة الأعرجي إلى طهران كمناورة دبلوماسية بالغة الدقة، يُرجَّح أن تكون هذه الخطوة محاولةً محسوبةً لإعلان حياد العراق الاستراتيجي، ساعيةً إلى تجنيب البلاد الانزلاق إلى أتون الصراع المحتدم بين إيران والكيان الصهيوني، وفي هذا المشهد، قد تجد الدبلوماسية العراقية نفسها - عن غير قصد - متماهيةً مع الأجندة الأمريكية-الإسرائيلية، ما يضعها في موقف دقيق للغاية.
ورغم المكانة الاستراتيجية للعراق كحليف لإيران، إلا أن الوقائع على الأرض تكشف عن قصور ملموس في اتخاذ إجراءات فعالة لصدّ الانتهاكات الصهيونية والأمريكية، بل إن الموقف العراقي إبان العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران، اتسم بدرجة من التراخي تفوق ما أبدته دول عربية أخرى في المنطقة، والتي اتخذت موقفاً أكثر حزماً برفض استخدام مجالها الجوي للعمليات الإسرائيلية، وإدانة العدوان بصورة قاطعة.
وفي سياق متصل، جاءت تصريحات رئيس الوزراء العراقي السوداني، عشية هذه الزيارة، لتحمل في طياتها دلالات واضحة على حجم الضغوط الأمريكية، فدعوته إلى "تجنيب البلاد ويلات الحرب"، رداً على الأنباء المتداولة حول احتمالية استخدام الأراضي العراقية كمنصة لشنّ هجمات، تعكس بجلاء تأثير الإملاءات السياسية الأمريكية على صناعة القرار في بغداد، وهذا التوجه يهدّد بتحويل التحركات السياسية العراقية إلى مجرد بيدق في الاستراتيجية الأمريكية، الهادفة إلى نسج شبكة أمنية محكمة حول الأراضي المحتلة.
وفي مواجهة هذه المعادلة، تتبنى الجمهورية الإسلامية الإيرانية نهجاً استباقياً يهدف إلى كسر هذا الطوق الأمني، فإعلانها عن الاستعداد لتنفيذ عملية "الوعد الصادق 3" يأتي كرسالة ردع قوية، تسعى من خلالها إلى إعادة رسم خارطة التوازنات الإقليمية، وتأكيد قدرتها على المناورة في وجه الضغوط المتزايدة.
عودة بغداد إلى الاتفاقية الأمنية
في سياقٍ بالغ الأهمية والحساسية، وإزاء التحديات الأمنية المتمثلة في وجود الجماعات المناوئة والكيانات الانفصالية على الأراضي العراقية، اتخذت طهران منعطفاً حاسماً في مقاربتها الاستراتيجية.
فبعد سنواتٍ من انتهاج سياسة ضبط النفس والمساعي الدبلوماسية المكثفة مع الحكومات المتعاقبة في بغداد، وجدت إيران نفسها مضطرةً - في ظل التراخي العراقي الملحوظ - إلى اتخاذ إجراءات عسكرية حازمة ضد المواقع الإرهابية، حفاظاً على سيادتها ووحدة أراضيها.
وهذا التحول في المشهد الإقليمي، دفع صناع القرار في بغداد إلى إعادة تقييم موقفهم، وإدراك مسؤولياتهم في مكافحة التهديدات الأمنية المنطلقة من أراضيهم تجاه دول الجوار، ما أفضى إلى صياغة اتفاقية أمنية ثنائية مع طهران تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي.
وفي ضوء الانتهاكات الصهيونية المتكررة للسيادة العراقية، تبرز أهمية العودة إلى المعاهدة الأمنية كإطارٍ فعّال للتصدي لهذه التجاوزات، فكما نجحت الاتفاقيات السابقة في تقليص المخاطر الناجمة عن نشاطات الجماعات الانفصالية وتنظيم "مجاهدي خلق" الإرهابي ضد الوحدة الترابية الإيرانية، فإن الآليات ذاتها قادرة على مواجهة التحديات الراهنة التي يفرضها الكيان الصهيوني.
وعليه، فإن المصداقية السياسية للحكومة العراقية تتطلب خطوات عملية وحاسمة، سواءً عبر ممارسة ضغوط دبلوماسية على واشنطن، أو من خلال إنهاء الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي العراقية، بما يكفل تحييد المخاطر المحدقة من قِبَل الكيان المحتل ويعزز الاستقرار الإقليمي.