ويعتمد الاقتصاد الألماني، الذي يواجه صعوبات في تحقيق النمو هذا العام، بشكل كبير على التجارة، وقد تؤثر الهجمات بالسلب على التوقعات التجارية لألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، أما بالنسبة للاقتصاد العالمي بشكل عام والذي يمر بمفترق طرق، فإن هذه سحابة أخرى تخيم على التوقعات وتحجب الرؤية، في الوقت الذي يدرس فيه صانعو السياسة في البنوك المركزية كيفية إنهاء معاركهم ضد التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة.
وبعد تصريحها بأنها هاجمت "سفينتين إسرائيليتين" في البحر الأحمر واحتجزت سفينة تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي في مضيق باب المندب خلال الأسابيع القليلة الماضية "نصرة لقطاع غزة"، أعلنت جماعة أنصار الله مؤخراً توسيع نطاق عملياتها ليشمل أي سفينة متجهة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي بغض النظر عن جنسيتها إذا لم يدخل قطاع غزة الغذاء والدواء.
ممرات تجارية حيوية
يعد البحر الأحمر، الذي يربطه مضيق باب المندب من الجنوب بالمحيط الهندي وبحر العرب وتربطه قناة السويس شمالا بالبحر المتوسط، شريانا مهما للتجارة والاقتصاد العالميين، فما يقدر بنحو 12 في المئة من التجارة العالمية يمر بقناة السويس وفق العديد من التقديرات الدولية، كما أنها تعتبر حلقة الوصل البحرية الأقصر والأسرع بين آسيا وأوروبا.
وفي هذا السياق تعتبر مياه البحر الأحمر وسيلة في غاية الأهمية لنقل النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، هناك ممرات حيوية تبدأ في مضيق هرمز الذي يفصل بين إيران وسلطنة عمان ويربط بين الخليج وبحر العرب وخليج عمان، ثم مضيق باب المندب ثم قناة السويس، هذه الممرات الثلاثة مهمة جدا للتجارة العالمية بشكل عام، وتجارة النفط الخام بوجه خاص.
أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون إلى ستة ملايين برميل نفط تمر يوميا عبد باب المندب وقناة السويس إلى أوروبا والولايات المتحدة، وبعبارة أخرى يعد هذا الممر المائي شرياناً حيوياً يمر من خلاله حوالي 10 بالمئة من إمدادات النفط المنقولة بحراً حول العالم و12 بالمئة من إجمالي التجارة العالمية، وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
حصة الغرب من التوتر الحاصل في البحر الأحمر
مع استمرار حالة التوتر، أجبرت بالفعل العديد من شركات الشحن على تحويل مسار سفنها عن قناة السويس وعبرت طرقا بديلة، ومنها شركة الشحن البحري الإسرائيلية "زيم" التي أعلنت الشهر الماضي أنها اضطرت إلى اتخاذ ذلك الإجراء بسبب الأوضاع في بحر العرب والبحر الأحمر.
ومن جانب آخر قال محللون في شركة "ستاندرد آند بورز غلوبال إنتيلجينس" إن شظايا هجمات أنصار الله ستكون لها تداعيات سلبيبة كبيرة على الاقتصاد الأوروبي.
وجاء في التقرير إن ما يقرب من 15% من البضائع المستوردة إلى أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا تم شحنها من آسيا والخليج (الفارسي) عن طريق البحر، ويشمل ذلك 21.5% من النفط المكرر وأكثر من 13% من النفط الخام.
لكن الأمر لا يتعلق بالنفط فقط حسب التقرير نفسه، ولكنه يشمل جميع أنواع السلع الاستهلاكية التي تظهر في المحلات التجارية بما في ذلك أجهزة التلفاز والملابس والمعدات الرياضية.
وأشارت "ستاندرد آند بورز غلوبال إنتيلجينس"، إلى أن سلاسل التوريد في أوروبا ستتأثر، بسبب تحويل مسار السفن بعيدًا عن البحر الأحمر بسبب هجمات أنصار الله لكن السلع الاستهلاكية "ستواجه التأثير الأكبر وهو ارتفاع الأسعار"، وفقًا لكريس روجرز، رئيس أبحاث سلسلة التوريد في "ستاندرد آند بورز غلوبال إنتيلجينس"، ولاحظ أن التعطيل الحالي قد حدث "خلال موسم الشحن خارج أوقات الذروة".
وتوقع التقرير كذلك تأخير وصول المنتجات إلى المتاجر، حيث إن رحلات سفن الحاويات ستستغرق ما لا يقل عن 10 أيام إضافية بسبب طول طريق رأس الرجاء الصالح الذي يضيف حوالي 3500 ميل بحري، كما سيرفع طول الرحلة البحرية من تكاليف الشركات، حيث رفعت من أسعار الشحن بنسبة 4% في الأسبوع الماضي ويمكن للشركات تحويل هذه التكاليف إلى العملاء، ما يعني غلاء العديد من السلع في الأسواق الأوروبية.
كما ينبه التقرير كذلك، إلى مخاوف من أن يؤدي الاضطراب إلى ارتفاع أسعار النفط.، وهو مكون رئيسي في وقود السيارات، وارتفاع الأسعار في محطات الوقود يؤدي أيضًا إلى ارتفاع التضخم، وقد انخفض معدل التضخم، الذي يقيس وتيرة ارتفاع الأسعار، في المملكة المتحدة ليصل حاليًا إلى 4.6%
ورجح أن تتسبب الهجمات في تعطيل وصول شحنات الغاز الطبيعي المسال، ما يؤدي إلى زيادات الفواتير على المستهلك الأوروبي خلال الشتاء الجاري.
ويتساءل الخبير روجرز، هل نقل البضائع عن طريق البحر الأحمر هو الخيار الوحيد؟ ثم يجيب نفسه عن السؤال قائلاً إن نقل البضائع بالسكك الحديدية سيتطلب عبور دول تخضع لعقوبات اقتصادية، في حين أن "النقل بالشاحنات من الخليج (الفارسي) إلى «إسرائيل» قد يعوض فقط حوالي 3% من تكاليف الشحن".
باختصار إن الإبحار في طرق بديلة يعني إطالة مدة الرحلة التي تقطعها سفن الشحن، وهو ما يعني بدوره عرقلة سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة النقل البحري، كما أن زيادة التوترات سوف تؤدي إلى ارتفاع كبير في تكلفة التأمين على السلع العالمية وتجارة النفط والغاز، فالكثير من أصحاب شركات النفط والسلع الأخرى قد يترددون في إرسال سفنهم إلى مرمى الخطر، وبامتناعهم، سيكونون قد أوقفوا إمدادات النفط والغاز الآتية من الخليج إلى أوروبا وأمريكا، وربما منطقة حوض الباسيفيكي أيضا، إذن، هناك خطر أن يحدث نقص في تلك الإمدادات، وهذا سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وهو ما سيؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج الصناعي في أوروبا و أمريكا، وتكلفة السلع التجارية ومن ثم الإضرار بالنمو الاقتصادي في هذه الدول.
ومن أهم الشركات التي قررت تعليق نشاطها عبر الأحمر يذكر شركة بريتش بتروليوم للنفط والغاز(BP البريطانية و(OOCL)ومقرها هنوج كونج، وميرسك (Maersk ) الهولندية، وهاباك لويد (Habag LIyod) الألمانية و(CMA CGM ) الفرنسية، وشركة البحر المتوسط للشحن (MSC ) الإيطالية السويسرية.
وبالعودة إلى الوقائع على الأرض وحسب خبراء في الأمن الملاحي والتأمين، فإن الهجمات التي يقوم بها أنصار الله نصرة لأهل غزة أدت بالفعل إلى ارتفاع تكلفة أقساط تأمين السفن التجارية التي تمر بالبحر الأحمر، وأدرجت سوق التأمين في لندن منطقة جنوب البحر الأحمر ضمن المناطق عالية المخاطر، وهو ما يكبد هذه الشركات دفع أقساط إضافية، ويتوقع أن يؤدي بدوره إلى زيادة أسعار السلع التي تحملها تلك السفن.
تهديد وشيك لأسواق الطاقة
على مدى أكثر من شهرين، تجاهلت أسواق النفط والغاز العالمية إلى حد كبير الحرب بين كيان الاحتلال الاسرائيلي وحماس لأنها لم تكن تُحدث أي عرقلة مهمة لتدفقات النفط والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، لكن الأسواق قد تكون بالغت في اطمئنانها، حسب ما يشير إليه خبراء.
وحسب تقارير عالمية لخبراء اقتصاديين إن المناطق المستوردة للطاقة ستكون هي الأكثر معاناة وبشكل خاص الدول منخفضة الدخل وأوروبا التي تتأرجح على حافة الركود الاقتصادي، مبينة أنه رغم أن الحرب بين كيان الاحتلال الاسرائيلي وحماس لم تترك بعد تأثيرها على أسعار الطاقة فإن عرقلة الشحن عبر البحر الأحمر قد تُحدث ذلك التأثير، إذ إن أسعار النفط والغاز المتصاعدة ستبقي على ارتفاع مؤشرات التضخم الرئيسية، الأمر الذي سيعيق جهود البنوك المركزية لتخفيف سياستها النقدية المتشددة.
فمن الممكن لعواقب النزاع في الشرق الأوسط أن تؤثر على أسواق الطاقة وعلى سلاسل التوريد العالمية، وأن تدفع بالأسعار الاستهلاكية صعوداً في الوقت الذي يلمح فيه الاحتياطي الفيديرالي الأمريكي إلى تحول في السياسة النقدية الأمريكية مع احتمال إجراء 3 تخفيضات على أسعار الفائدة في 2024.