ولفت في مقابلة خاصة لوكالة اسلام تايمز الى ان الحكومات التابعة للغرب والمناهضة للمقاومة ولمحورها الإقليمي تجدها فرصة لشدّ خناق الإستنزاف، وتنشيط محاولات الاختراق والضغط بابتزاز الحاجات المستجدّة للمساعدة، وهي تستثمر منذ سنوات واليوم بصورة أشدّ خطورة وقسوة، أيّ خطوة في هذا السياق، لاختبار أدوات الترهيب والترغيب واستمالة المزيد من العملاء والمرتزقة وتوسيع دوائر نفوذها السياسي والاستخباراتي داخل لبنان، لتعديل التوازنات السياسية اللبنانية لصالح خطط الهيمنة الاستعمارية - الصهيونية في المنطقة، ولمحاصرة المقاومة ونزعة الاستقلال ورفض الهيمنة داخل المجتمع اللبناني ومعادلاته وبناه السياسية.
وهنا نص المقابلة:
اسلام تايمز: كيف تنظرون الى خطورة تدهور الاوضاع في لبنان وما هي تداعياته؟
غالب قنديل: لسنا في أزمة عابرة وقياس التداعيات والنتائج في مثل هذه الحالة يرتبط بتشخيص موضوعي دقيق لطبيعة التفاعلات الجارية والمتراكمة ونتائجها وتداعياتها. فالأزمات المرتبطة بمسارات تطوّرٍ ونموّ تنشأ عن تبلور حاجات جديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية، تقتضي تعديلات هيكلية في الأنظمة والقوانين لمواكبتها. وغالباً ما يكون محكّ الصراع محوره توزيع الثروة، وفي مثل تلك الأحوال تقع اضطرابات وأزمات اقتصادية ومالية واجتماعية، يتمّ تجاوزها واحتواؤها بتعديلات هيكلية في الأنظمة والقوانين لمواكبة التطور والإحتياجات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. أما في وضعنا الراهن، فنحن أمام أزمة نضوب الثروة وانهيارٍ يصاحبه خراب اقتصادي كلّي، ولا يمكن تجاوز هذا النفق بتدابير جزئية أو تجميلية. فالأمر يقتضي وصفة مناسبة، وهي في حدّها الأدنى خطة تغيير هيكلية شاملة في البنيان العام للإقتصاد الوطني، لتوفير مستلزمات إحياء الثروة الوطنية ومواردها بما يراعي التغييرات المتراكمة في البيئة الإقليمية والدولية المتشابكة.
إن النتائج والمخاطر الناشئة عن الانهيار داخل لبنان مركّبة، وهي تطال مستويات اجتماعية وسياسية وأمنية. ويمكن الإستنتاج بأن البلاد تدخل نفق تفكّك وانفلات وتوحّش اجتماعي وفوضى خطيرة، بانفراط جميع روابط ومستويات الاجتماع البشري الطبيعي، ومع ضعف ووهن الهياكل المرتبطة بجميع مستويات الضبط والربط المجتمعي. ومن أكثر وجوه الكارثة قتامة ما عبّرت عنه حاجة الجيش اللبناني إلى تمويل احتياجاته اليومية من التموين والطعام، ناهيك عن احتياجاته اللوجستية الطبيعية. وهكذا مدّت المؤسسة العسكرية يدها إلى الدول الأجنبية لاستعطاء مستلزمات ضرورية للبقاء، وهو مظهر من أخطر تعبيرات الكارثة، ينطوي على مخاطر وجودية. كذلك في دوامة الفوضى تنشأ تعقيدات وظواهر مركّبة، تحمل معها مزيداً من عوامل الانهيار والتفكّك والتآكل البنيوني. ومن هنا تحدّث علماء الاجتماع والمؤرخون عن البربرية كخطر جدي يهدد المجتمعات الإنسانية واستقرارها ونموها.
لا يمكن التعامل مع الحدث اللبناني وتفاعلاته بمعزل عن الاطار الإقليمي والدولي المتشابك. ولذلك فإن التداعيات والنتائج المتوقّعة تنال اهتماماً كبيراً في الغرب وفي الإقليم، لأن لبنان هو بلد المقاومة التي انتصرت على الكيان الصهيوني، وهذا ما يظهر لنا سرّ "الحمية" التي تبديها حكومات دولية إقليمية تعرض المساعدة، التي تسعى أبواق لبنانية تابعة ومرتهنة لتقديمها إلى الرأي العام كبوادر سخاء وإيثار.
اسلام تايمز: كيف يمكن ان ينعكس التوتر الداخلي اللبناني على المحيط العربي؟
غالب قنديل: إن تفاقم الاضطراب والفوضى في ظل الانهيار الاقتصادي الشامل ينذر بتداعيات لا يمكن حصرها داخل لبنان. ومن هنا تستشعر الحكومات الإقليمية القريبة والمرشّحة للتأثّر بانعكاسات الأزمة وتداعياتها، وبعضها يتحرّك وقائياً للإحتواء الاستباقي بدوافع متعددة ومتفاوتة. فالحكومات التابعة للغرب والمناهضة للمقاومة ولمحورها الإقليمي تجدها فرصة لشدّ خناق الإستنزاف، وتنشيط محاولات الاختراق والضغط بابتزاز الحاجات المستجدّة للمساعدة، وهي تستثمر منذ سنوات واليوم بصورة أشدّ خطورة وقسوة، أيّ خطوة في هذا السياق، لاختبار أدوات الترهيب والترغيب واستمالة المزيد من العملاء والمرتزقة وتوسيع دوائر نفوذها السياسي والاستخباراتي داخل لبنان، لتعديل التوازنات السياسية اللبنانية لصالح خطط الهيمنة الاستعمارية - الصهيونية في المنطقة، ولمحاصرة المقاومة ونزعة الاستقلال ورفض الهيمنة داخل المجتمع اللبناني ومعادلاته وبناه السياسية.
وهذا التوجّه المنهجي تتلاقى في سياقه حكومات عديدة، تنسق جهودها وخطواتها السياسية والمخابراتية والاقتصادية في لبنان، وهي تنسج بذلك منظومة حركة واستثمار في مناخ الانهيار الاقتصادي والمالي في تحرّكها السياسي والأمني والإعلامي، لاخترق المعادلات والبنى الوطنية حين يتسنّى لها ذلك، وهي تتحيّن فرصاً أوسع وأقل كلفة في زمن الإنهيار الاقتصادي والمالي.
تنبغي الإشارة هنا إلى ان المخاوف من نشوء فوضى واضطرابات أمنية وعسكرية تحوّل لبنان إلى بؤرة ناقلة للعدوى، والمخاطر باتت تطبع الكثير من التوقّعات وردود الفعل والتداعيات المرتبطة بالوضع اللبناني الجديد، وتوحي بذلك مواقف وبيانات عديدة ظهرت في الفترة الأخيرة، وتحركت في هذا المناخ خطوات ومبادرات، ستبقى رهينة التوظيف السياسي والضغوط المباشرة وغير المباشرة باستعمال الأزمة الاقتصادية والمالية للتأثير على موقف لبنان وموقعه من دوائر الصراع الكبرى ولاسيما الصراع العربي الصهيوني. ومن هذه الزاوية يفترض بنا النظر إلى المواقف والمبادرات العربية وحجمها ومضمونها وإيقاعها تحت عنوان مساعدة لبنان.
اسلام تايمز: ماذا يمكن ان تقدم المساعدات السياسية والاقتصادية لبعض الاطراف (العربية) في إطار حل الازمة اللبنانية؟
غالب قنديل: إن ما يمكن للحكومات العربية تقديمه من مساعدات مالية واقتصادية كبير، وهو يقع في دوائر المصالح المشتركة، اذا نزّهنا المساهمات العربية الممكنة عن الخضوع لأجندات الهيمنة الأميركية والغربية وارتباطها بمسار الصراع العربي الصهيوني وسائر معادلات المنطقة وتوازناتها وصراعاتها. وللأسف قد تكون الخشية من تداعيات الانهيار ونتائجه الأمنية الإقليمية، هي الحافز الرئيسي لبعض شواهد "النخوة " المستجدّة لنجدة لبنان بعد الانهيار، خصوصاً عند الحكومات التي أدمنت استعمال لبنان كمنصة للعمل المخابراتي والتوظيف السياسي والإعلامي في خدمة المشاريع الأميركية والغربية في المنطقة. وهذا ما كشفته تقارير ودراسات غربية عديدة وروايات ومصنّفات ادبية، ظهرت عن لبنان ومكانته كعقدة مالية واستخباراتية فاعلة في المنطقة، وكمحطة مفضَّلة لمنصات التجسس على دول المنطقة، وقاعدة لتجنيد العملاء وادارة عمليات التخريب في شرق المتوسط وشمال إفريقيا.
إن العامل المهم في البيئة الإقليمية يتمثل بتبلور محور المقاومة، ونشوء مواقع عاصية وقلاع متمردة، تواجه الحلف الاستعماري الصهيوني، وتبذل جهودا للتكتّل الاقتصادي في مسار التعاون والتنمية، مما يوفّر حضنا إقليمياً حيوياً لطموحات النهوض والتنمية في لبنان وسواه من البلدان الشقيقة المنكوبة والمستنزفة. وما تتبلور مقدماته في علاقات دول المشرق العربي وتعاونها الاقتصادي، يُبنى عليه، ويستحقّ كلّ رعاية، انطلاقاً من تخطّي حاجز التجاهل والتهميش في النظر إلى المسائل الاقتصادية وتأثيرها على الخيارات والمواقع الاستراتيجية.
اسلام تايمز: ماذا عن حملات التحريض الاميركية في الداخل اللبناني ومساهمتها تعميق الازمة؟
غالب قنديل: بقدر ما تخشى الإمبراطورية الأميركية ودول الغرب الاستعماري من نتائج الانهيار وانعكاساته على خططها وأدواتها، تسعى للإستثمار في سياقه وتفاعلاته، وإن تحرّكت للمساعدة، فلمنع انفجار كبير، يخرج عن السيطرة، وقد يغذّي احتمالات تطوّر سياسيّ أشدّ راديكالية، ينطوي على قدر أعلى من المخاطر والتداعيات. وفي خبرة التجارب الأميركية والغربية في العالم الثالث العديد من الدروس والعبر، التي تحتّم التفكير الوقائي في حالة كالوضع اللبناني الراهن. ولذلك نجد الولايات المتحدة بمنصاتها السياسية والإعلامية وعبر عملائها تزجّ بكلّ ما لديها من إمكانات وقدرات لاعتراض مشاريع احتواء الكارثة على قاعدة الاستقلال ورفض الهيمنة. ومن هذا الموقع يتربّص طابور المرتهنين وسائر أبواق العمالة والتبعية بكل بادرة تنمية وانعتاق من قبضة الاستلاب الغربي الأميركي. والتجاذب الدائر حول سبل النهوض بعد الانهيار ليس ترفاً ولا نقاشاً فنّياً في تفاصيل اقتصادية لا علاقة لها بالسياسة، بل هو جوهر السياسة الفعلية ولبّها.
إن من يتابع ويدرس ايقاع المبادرات والخطوات الأميركية والغربية في لبنان يستنتج عِبرة سافرة، تقف خلف منهج التعامل مع الوضع الجديد بمنطق "تدعه يسقط ولا تدعه ينهض "، وعلى وتر مشدود توفّر المساعدات المعروضة، ما يمنع السقوط في دوامة فوضى وتداعيات ومخاطر متدحرجة، قد تهدّد المصالح الغربية في المنطقة كلّها. ومهما نفخت الأبواق المحلية العميلة في معزوفات الإنقاذ، تفيد عِبر التجربة التاريخية في لبنان وسائر بلدان المنطقة أن الكوارث هي خبر سعيد، لأنها تولّد حقولاً رحبة للتدخّل والاختراق السياسي والأمني، فكيف في بلد المقاومة الذي قهر الكيان الصهيوني.