هذا التنبؤ ظهرت أدلته من الآن، إذ يرى "ديفيد هيرست"، المحلل السياسي ورئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي" والصحفي السابق بجريدة الغارديان، في مقال بعنوان "كل الدلائل تشير إلى فشل إسرائيل الاستراتيجي"، أن تداعيات الجريمة في غزة هي فشل استراتيجي مع آثار عميقة وطويلة المدى للصهاينة.
يبدأ هيرست برواية صادمة لطفل فلسطيني، قُتلت عائلته بأكملها بوحشية على يد الجنود الإسرائيليين أمام عينيه. تحدث فيصل الخالدي، في لقاء مع قناة العربي، عن لحظة دخول جنود الاحتلال منزلهم في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة.
قال الطفل للمراسل: "كانت والدتي حاملاً. وعندما كنا ذاهبين إلى المدرسة، دخلوا (الجنود الإسرائيليون) إلى غرفة المعيشة، ثم أطلقوا النار على والدتي في بطنها. وكانت في الشهر السابع من الحمل".
يسأل المراسل: "أين كان والدك؟"
فقال الطفل: كان نائماً.
المراسل: بعد أن استيقظ؟
الطفل: "لقد قُتل مع والدتي في نفس الأسبوع".
المراسل: في نفس اليوم؟
الطفل: نعم
المراسل: أمامك؟ هل رأيت هذا يحدث؟
الطفل: "نعم أمامي"
المراسل: "ماذا رأيت؟" ماذا حدث؟"
الطفل: "أخذوه إلى الردهة وأطلقوا النار عليه أمامي".
وللتعبير عن أن وراء هذه الأعمال الإجرامية أفكار صهيونية عنصرية وعنيفة، يقول هيرست إنه ربما كان هؤلاء الجنود ينفذون أوامر الحاخام إلياهو مالي، رئيس مدرسة يهودية في يافا: "المبدأ الأساسي لدينا هو أنه عندما نكون في ذروة الحرب المقدسة، فمن الواضح جدًا أنه إذا لم تقتل أولاً، فسوف يقتلونك. إن الإرهابيين اليوم هم أطفال الماضي الذين بقوا على قيد الحياة، وفي الواقع فإن النساء هم من يصنعن هؤلاء الإرهابيين. إن تعريف عبارة "لا تحيا كل نفس" واضح جدًا في الكتاب المقدس. إما أنت أو هم." إذن، التوراة واضحة في ضرورة قتل النساء والأطفال".
سأل أحد الحضور الحاخام: ولكن ماذا عن الرجال المسنين؟
الحاخام: "لا يوجد شخص بريء. وينطبق الشيء نفسه على شخص مسن قادر على حمل السلاح. التوراة واضحة جداً. في غزة، بحسب كل تقديرات الأجهزة الأمنية، 95 إلى 98 بالمائة يريدون تدميرنا. إنها الأغلبية، والأمر نفسه (مع الأطفال). لا تحاولوا تجاوز التوراة".
ولعل هذا هو السبب الذي جعل الجنود الإسرائيليين يهنئون مؤخراً رفيقهم، الذي قتل رجلاً مسناً أعزلاً يعاني من إعاقة في النطق، في غرفة نومه ويداه مرفوعتان.
قال الجندي: "لقد فتحنا الباب. کان خائفاً، جاء نحوي وفعل هذا (كان يلوح بيديه)، فقتلته بأربع رصاصات".
وتساءل أحد الزملاء (المراسلين) في مقطع فيديو على موقع التواصل الاجتماعي "إكس": "هل كان وحيداً؟"
الجندي: "لا أعرف. لم يكن لدينا وقت"
وفي هذا المقطع سئل الجندي: کان من دون سلاح؟ هل كان في يده شيء؟
الجندي: "لا، لا، كان مختبئًا بجوار السرير".
ويستنتج هيرست من طريقة ردّ الجنود الإسرائيليين، أنهم يجهلون تماماً مدى تأثير هذه المقاطع في جميع أنحاء العالم. لكن العالم يراقب.
إن مستوى الوحشية والفرح الذي يظهره جنود الاحتلال بعد عمليات القتل اليومية، وتجويع شعب غزة ثم إسقاط منشورات باللغة العربية تطلب من الفلسطينيين إطعام المحتاجين، ثم قتل 400 شخص في طابور المساعدات الإنسانية، كل هذا هائل في إجرمه جدًا بحيث لا يمكن تغطيته عندما تنتهي هذه الحرب. العملية برمتها في غزة جريمة.. مستحيل أن تغفر. لا يمكن تبريرها ولا يمكن تأطيرها.
وبحسب هيرست، فإن هذه الحرب ستجبر الداعمين الغربيين الذين ظلوا غير مبالين بالأعمال الإجرامية للصهاينة لمدة 75 عامًا، على مواجهة الحملة التي وصفوها قبل خمسة أشهر فقط بالعادلة، بالرعب الكامل. وحتى منتقد مثل السيناتور الأميركي بيرني ساندرز قال قبل خمسة أشهر، إن الحرب ضد حماس كانت عادلةً.
لقد أصبحت الصهيونية الليبرالية الآن متناقضةً في المصطلح. بمثل هذا السلوك، لم تعد "إسرائيل" موطناً لشعب محاصر تعرض للاضطهاد في جميع أنحاء العالم منذ آلاف السنين، بل أصبحت الحصن المشؤوم للعنصريين اليهود، الورثة الطبيعيين للعنصريين البيض. وهذا له تأثير کبير حتى على اليهود في جميع أنحاء العالم، الذين ترتكب هذه الجرائم باسمهم وباسم ماضيهم المشترك.
على سبيل المثال، انتقادات جوناثان غلايزر، المنتج البريطاني لفيلمZONE OF INTEREST، الذي قال خلال خطاب قبوله لجائزة الأوسكار: "نحن نقف هنا كرجال ينكرون أنهم يهود وأنهم اختطفوا في المحرقة. وهو الاحتلال الذي أدى إلى الحرب للعديد من الأبرياء". ونفس الصرخة "ليس باسمي" تسمع الآن من قبل آلاف الشباب اليهود، الذين يسيرون في لندن في نهاية كل أسبوع لوقف الحرب في غزة.
إميلي، ناشطة يهودية في مجموعة Naamod UK، قالت مؤخراً عن صعود المنتقدين اليهود والمعادين للصهيونية: "هذه الحركة مستمرة في النمو وتكبر أكثر فأكثر. لم أكن على يقين لهذه الدرجة من أنني سأرى فلسطين حرةً."
کما أن المعارضة اليهودية الأكاديمية لـ "إسرائيل" قوية وصريحة، ولا يمكن أن يطلق عليها بالضبط بـ "الهامشية". إذ تفقد "إسرائيل" الآن صوتها اليهودي العالمي.
وينقل هيرست تقارير عن إرهاب "إسرائيل" ومؤيديها إلى الجيل الجاد من اليهود الأمريكيين والبريطانيين، لأنه في العقود الثمانية الماضية كان هناك شبه إجماع حول وجود "إسرائيل" وهويتها وهدفها، وهو أقوى من كل الأسلحة والمال والمهاجرين اليهود.
ولكن كلما أصبح هذا الإجماع أضعف، كلما فقدت "إسرائيل" نفوذها في عواصم القوى الغربية بشكل أسرع. وفي الوقت الحالي يعمل الإدمان القهري على دعم "إسرائيل"، على تعطيل الجهود التي يبذلها الغرب لتقديم نفسه كقوة من أجل الخير في العالم. والآن يقع هذا الدور على عاتق دول مثل جنوب أفريقيا.
ووفقاً لهيرست، فإن فقدان هذا النفوذ قد يستغرق وقتاً. ورغم أن كل سياسي محافظ وعمالي في بريطانيا اليوم، يجب أن يكون صديقًا لـ "إسرائيل" حتى يتمكن من التقدم في المناصب السياسية، إلا أن هذا قد لا يكون صحيحًا بالنسبة للجيل القادم من السياسيين.
الحرب من الداخل
بالإضافة إلى تاريخ انتهاء تأثير الرواية الأخلاقية الداعمة لنظام الفصل العنصري الصهيوني في الغرب، وارتفاع صوت اليهود ضد الصهيونية، هناك علامة أخرى على الفشل الاستراتيجي للکيان الصهيوني في حرب غزة، وفقاً لديفيد هيرست، وهي الصدع الذي لا يمكن إصلاحه والذي نشأ داخل مجلس الحرب التابع للکيان.
ففي الشهر السادس من الحرب، أصبح الانقسام في الحكومة الصهيونية أكثر وضوحاً وعلنيةً من أي وقت مضى. حيث تحدى اثنان من كبار أعضاء مجلس الوزراء الحربي علنًا مطالب رئيس الوزراء.
وأول إجراء احتجاجي اتخذه وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي أعلن أنه لن يوافق على تقديم مسودة قانون الخدمة العسكرية الجديد، إلا إذا توصل إلى اتفاق مع حزب الوحدة الوطنية بزعامة عضو الكنيست بيني غانتس، حول كيفية تنظيم إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة الإجبارية.
وبهذا الإجراء، أعطى غالانت فعليًا لغانتس حق النقض القانوني لقطع التمويل الحكومي عن المدارس الدينية؛ ومن دون مثل هذا القانون، من المؤكد أن الأحزاب الحريدية ستنسحب من ائتلاف الحكومة المتشددة، وسوف تسقط الحكومة.
والخطوة الثانية جاءت من غانتس، الذي قام بزيارات غير منسقة مع رئيس الوزراء إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، وفي كلتا الحالتين أمر نتنياهو سفارات الکيان بعدم التعاون. لكن الضعف السياسي الذي يعاني منه نتنياهو، يبلغ درجةً أنه لا يستطيع إقالة غانتس أو غالانت.
والضربة الثالثة التي تلقاها نتنياهو في الأسابيع القليلة الماضية، كانت التصريح الأخير للحاخام السفاردي يتسحاق يوسف، الذي قال إنه إذا نفّذت الحكومة التجنيد الإجباري على الحريديم، فسوف يغادرون "إسرائيل" بشكل جماعي.
وقد أظهر هذا الوضع أن رئيس مجلس الوزراء الحربي يفقد السلطة اللازمة لمواصلة الحرب، ولا يستطيع الاستمرار في الحرب كما يريد. في حين أن قيادة حماس في غزة تبعث هذه الرسالة باستمرار إلى فرعها السياسي في الدوحة وبيروت، بأنها متأكدة من قدرتها على مواصلة الحرب.
ومن العلامات الأخرى على ثقتهم في قدرتهم على تشكيل مستقبل فلسطين وقيادتها، قائمة الأسرى الذين طالبوا بالإفراج عنهم، مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين.
وتشمل القائمة الأخيرة زعيم فتح مروان البرغوثي، المحكوم عليه بخمس أحكام مؤبدة والسجن 40 عاماً، بسبب أفعاله في الانتفاضة الثانية. أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ عبد الله البرغوثي، القائد العسكري لحركة حماس؛ وإبراهيم حميد، أحد قادة الانتفاضة الثانية، موجودون أيضًا في هذه القائمة.
وإذا تم إطلاق سراح أي من هؤلاء الأشخاص، فإن التأثير سيكون تحولاً استراتيجياً في القيادة الفلسطينية عبر جميع الفصائل: القومية، العلمانية، والإسلامية. وبالنسبة للفلسطينيين، سيكون هذا بمثابة نهضة سياسية كبرى. ويعني أيضًا النهاية النهائية لتعاون السلطة الفلسطينية مع الاحتلال.
وبدلاً من ذلك، فإن أحدث فكرة لحكومة الحرب هي تعيين عضو آخر في منظمة السلطة الفلسطينية، ماجد فرج، مسؤولاً عن غزة. لكن مهمة فرج محكوم عليها بالفشل حتى قبل أن تبدأ، والقرار الحكيم بالنسبة له هو رفض مثل هذا الكأس المسموم.
الضوء الأخضر يتحول إلى اللون الأصفر
كما أن لضعف نتنياهو تأثيراً عميقاً على النخبة السياسية الغربية التي دعمت "إسرائيل" وسلحتها. حيث أصبح الخلاف بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونتنياهو الآن في العلن.
فالرئيس الأمريكي، الذي قال قبل خمسة أشهر بصوت عالٍ إن لـ"إسرائيل" الحق في الدفاع عن نفسها، يقول الآن إن "إسرائيل" لا تستطيع أن تقتل 30 ألف فلسطيني آخر باسم الدفاع عن النفس.
يعتقد هيرست أن بايدن يواجه عواقب إعطاء "إسرائيل" الضوء الأخضر لمهاجمة غزة بعد عملية حماس في 7 أكتوبر، وهذه العواقب انتخابية إلى حد كبير. ويشعر فريق بايدن بالصدمة من مدى تأثير هذا الوضع على الأصوات غير الملتزمة.
لم يصوت مئات الآلاف من الناخبين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، لأي مرشح في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية الحاسمة التي جرت يوم الثلاثاء، وهي حركة ناخبين صوتوا "غير ملتزمين" احتجاجًا على أسلوب تعامل بايدن مع حرب غزة. وهذا قد يكلفه في الانتخابات العامة في نوفمبر.
كانت تحيات بايدن الرمضانية هذا العام مميزةً ودافئةً، لكن الأميركيين العرب والمسلمين لا يريدون العناق، بل يريدون تغييراً في سياسة البيت الأبيض. لكن بايدن لا يزال يدعم فقط وقف إطلاق النار المؤقت، وليس الدائم، ولم يهدد بقطع إمدادات الأسلحة عن الکيان الإسرائيلي.
كما حذّر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو أعلى مسؤول يهودي في الولايات المتحدة، الکيان الإسرائيلي يوم الخميس الماضي، من أنه لن يتمكن من البقاء إذا أصبح منبوذاً عالمياً، في تغيير حاد في لهجته.
واتهم شومر نتنياهو بوضع بقاءه السياسي قبل المصلحة الوطنية، قائلا إنه "مستعد بشكل مفرط لإيقاع خسائر في صفوف المدنيين في غزة، الأمر الذي من شأنه أن يرسل الدعم لإسرائيل في جميع أنحاء العالم إلى أدنى مستوياته التاريخية".
وفي الختام، يخلص هيرست إلى أن خسارة الرأي العام في الغرب، واستمرار ملف الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وخسارة الإجماع اليهودي، وغضب أنصار "إسرائيل"، كل هذا يشير إلى الفشل الاستراتيجي للکيان الصهيوني.
وحتى لو توقفت الحرب الآن، فإن الثمن الذي دفعه الکيان الإسرائيلي لإعادة احتلال غزة، أعلى مما كان يحسبه قبل خمسة أشهر. لكنه لم يفهم هذا بعد.