بعد اجتماعات متكررة في مجلس الأمن والعالم الإسلامي لإيجاد حل لوقف الصراعات في غزة، اجتمع هذه المرة وزراء خارجية خمس دول في الرياض لبحث أوضاع الأراضي المحتلة.
وفي هذا اللقاء التشاوري الذي عقد يوم الخميس الماضي، أكد المشاركون على ضرورة إزالة كل القيود التي تمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
وحضر هذا الاجتماع وزراء خارجية السعودية وقطر والإمارات ومصر والأردن، إلى جانب حسين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما أكد وزراء خارجية الدول العربية في الاجتماع التشاوري، على أهمية اتخاذ خطوات لا رجعة فيها لتشكيل دولتين مستقلتين.
وأعلن وزراء خارجية الدول العربية في هذا الاجتماع دعمهم لوكالة الأونروا، وطالبوا جميع داعميها بالقيام بدورهم تجاه اللاجئين، وتم التأكيد أيضًا في هذا اللقاء على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
كما أعلن وزراء خارجية الدول العربية، أن غزة جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة، و"أننا نعارض بشدة أي هجرة قسرية لسكان قطاع غزة".
ورغم أن عقد اجتماعات إقليمية حول فلسطين يعدّ خطوةً سياسيةً فعالةً، إلا أنه إذا اقتصرت نتائج هذه اللقاءات على مشاورات المائدة المستديرة، فإنها ستكون عملاً لا طائل منه، حيث إن هذه اللقاءات لم يكن لها أي تأثير خلال الـ 75 عاما الماضية، ولم تتمكن من إجبار الصهاينة على الانسحاب من الأراضي المحتلة.
وتدعم الدول العربية تشكيل الدولة الفلسطينية، في حين أنها لم تتخذ أي إجراء فعال لمساعدة أهل غزة في الأشهر الأربعة الماضية، وحتى بعض الدول مثل الإمارات دعمت تل أبيب من وراء الكواليس.
حالياً، المهم بالنسبة للفلسطينيين ليس تشكيل الدولة الفلسطينية، بل وقف جرائم الکيان الصهيوني في غزة والضفة الغربية، وإرسال المساعدات العاجلة إلى غزة، حتى يتمكن مئات الآلاف من الناس من التخلص من هذا الوضع الكارثي الذي حصل لهم.
أيضاً، بالنظر إلی حجم الدمار والخراب، تحتاج غزة إلى إعادة إعمار فورية للبنية التحتية والمناطق السكنية، وإذا كانت الدول العربية عازمةً على دعم فلسطين، فينبغي لها أن تشارك في إعادة إعمار غزة، وأن تكون قادرةً على حل بعض مشاكل الناس.
لقد أظهرت بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة، أن قضية فلسطين لا معنى لها بالنسبة لها، وسعت إلى تطبيع العلاقات مع الکيان الصهيوني، حتى أن السعودية التي تعتبر نفسها زعيمة العالم العربي، طرحت العام الماضي شروطاً للتطبيع تلبي طموحات السعوديين بدلاً من المصالح الفلسطينية.
وكان شرط توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة، حسب ما هو موجود في منظمة حلف شمال الأطلسي، هو أيضاً بناء منشآت نووية لتخصيب اليورانيوم، وهو ما لم توافق عليه واشنطن وتل أبيب حتى الآن.
سياسة أمريكا الغامضة تجاه فلسطين
في العقود الثمانية الماضية، ثبت للجميع أن الموافقة على تشكيل الدولة الفلسطينية تعتمد على رأي قادة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وإذا كان لديهم رأي إيجابي في هذه القضية، فسيتم حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى حد كبير.
وزعمت صحيفة نيويورك تايمز، في تقرير حديث نقلاً عن مصادر مجهولة، أن البيت الأبيض سيعترف قريبًا بدولة فلسطين المستقلة، وكتبت الصحيفة أنه سيتم النص في هذه الخطة على ضرورة تحديد الحدود، والتفاصيل الأخرى المتعلقة بتشكيل الدولة الفلسطينية في المستقبل.
ووفقاً لهذا الادعاء، فإن إحدى وسائل أمريكا لدفع هذه الخطة إلى الأمام، هي تقديم قرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي لن تستخدم واشنطن حق النقض عليه على الأقل.
وفي الأسابيع الأخيرة، أعلن مسؤولون كبار في البيت الأبيض أن حل الدولتين هو الحل الوحيد للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأشاروا إلى أنه ضمانة لأمن "إسرائيل"، لكن لم يتم اتخاذ أي خطوات عملية.
ورغم أن القادة الأمريكيين وافقوا في الظاهر على حل الدولتين، فإن الحكومة الفلسطينية التي يدرسونها، تختلف عما يريده الفلسطينيون والعرب، حيث تحاول أمريكا إنشاء حكومة في فلسطين تكون تابعةً سياسياً وأمنياً لأوامر الكيان الصهيوني وتلعب دوراً مماثلاً لدور منظمة السلطة الفلسطينية.
إن انسحاب الکيان الإسرائيلي إلى حدود 1967، وهي رغبة المجتمع الدولي، لا معنى له بالنسبة للأمريكيين، وهم يريدون تشكيل الحكومة الفلسطينية داخل الحدود المحتلة للضفة الغربية وغزة، وبعد نزع سلاح الفلسطينيين بشكل كامل وتدمير فصائل المقاومة، يجب أن يكون للصهاينة السلطة الكاملة على كل شؤونها؛ وبمعنى آخر حكومة عميلة ليس لها إرادة خاصة بها.
ونظراً لوحشية الصهاينة، فلا شك أنه لولا السلاح والمقاومة المسلحة، لكانت سياسات "إسرائيل" التوسعية قد صادرت كل الأراضي الفلسطينية، وشردت غالبية هذا الشعب كما في الماضي.
وفي الواقع، الآن أيضًا إذا أصرّ الغربيون على حل الدولتين، فقد جاء ذلك في ظل نضال الفصائل الفلسطينية المسلحة وموقف الصهاينة الضعيف، وهدفهم من حل الدولتين ليس مساعدة الفلسطينيين، بل يريدون ضمان أمن الکيان الصهيوني.
ولذلك، فإن الجهود لنزع سلاح فصائل المقاومة تبذل بهدف إضعاف الفلسطينيين، لكن الشعب الفلسطيني لا يسمح بذلك، لأن الکيان الصهيوني، حسب الزعماء الفلسطينيين، لا يفهم إلا لغة القوة، وفي غياب السلاح، سيحتل الصهاينة ما تبقى من الأراضي.
في المقابل، أظهرت واشنطن سياسات متناقضة في تشكيل الحكومة الفلسطينية، الأمر الذي يشكك في جديتها في تحقيق هذا الهدف، وفي هذا الصدد، وافق مجلس النواب الأمريكي، الخميس (13 شباط/فبراير)، على خطة لمنع دخول مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية وقادة حماس والجهاد الإسلامي إلى هذا البلد.
واعتبرت السلطة الفلسطينية، في بيان لها، أنها تدين هذه الخطة لأنها تتعارض مع القرارات العلنية للحكومة الأمريكية، وذكرت أن مثل هذا القرار سيكون له تأثير سلبي على موقف ومصداقية هذا البلد في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ولذلك، يمكن القول إن مسؤولي البيت الأبيض غير جادين في سياساتهم تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويستمرون في دعم مصالح الاحتلال، وفي الأشهر الأخيرة، أثيرت مسألة تشكيل دولة فلسطينية بشكل أو بآخر من قبل مسؤولين غربيين آخرين، لكن لو كانت هذه الدول جادةً حقاً في تصريحاتها حول قيام الدولة الفلسطينية، لبادرت إلى الاعتراف بها قبل سنوات من هذه الحرب الإجرامية.
إن اشتراط الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد وقف الأعمال العدائية، يؤكد عدم جدية الغرب ويكشف الخداع الخفي وراء هذه المحادثات، وخاصةً أن هذه الدول نفسها سبق أن وعدت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية عدة مرات، ونكثت بالتزاماتها.
لقد حدث ذلك عام 1993 مع توقيع اتفاقيات أوسلو، التي حددت سقفًا زمنيًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية عام 1999، بشرط اعتراف السلطة الفلسطينية بـ "إسرائيل"، لكن ثلاثة عقود مرت على هذا الاتفاق، الذي كانت واشنطن ضامنةً لتنفيذ بنوده، ولم يقتصر الأمر على عدم تشكيل الحكومة الفلسطينية، بل اغتصب الصهاينة المزيد من الأراضي من خلال بناء مستوطنات جديدة.
الخلاف بين واشنطن وتل أبيب
هناك قضية أخرى تعيق الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية، وهي الخلاف بين واشنطن ومتطرفي تل أبيب.
تحاول إدارة جو بايدن حالياً، بكل الطرق الممكنة، خلال الأشهر المتبقية حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، جرّ السعودية نحو تطبيع العلاقات مع الکيان الإسرائيلي، وتقديمه كإنجاز كبير في سجل سياستها الخارجية.
كما أن بايدن، بمواقفه الكاذبة عن إقامة الدولة الفلسطينية، ينوي استعادة ثقة قسم كبير من الرأي العام الأمريكي بين العرب المسلمين، الذين فقدوا ثقتهم في الحكومة الديمقراطية في الأشهر الأخيرة.
لكن المتشددين الصهاينة أظهروا أنهم قادرون على العمل بشكل أفضل مع الجمهوريين في البيت الأبيض، ومع التوترات التي كانت لديهم مع إدارة بايدن في العام الماضي، ليس لديهم رغبة في فوزه بالانتخابات مرةً أخرى.
ولذلك، فإنهم لن يوافقوا على حل الدولتين، وقد ذكر ذلك أيضاً بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني، کما قال المتشددون الإسرائيليون مراراً وتكراراً إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقرر بالنيابة عنهم، وأعربوا عن معارضتهم الشديدة لتحركات الديمقراطيين.
لقد أظهرت جرائم الکيان الصهيوني الأخيرة في غزة، أن السبيل الوحيد لإنهاء الصراع بين فلسطين والكيان الصهيوني، هو تشكيل دولة فلسطينية، وطالما أن الفلسطينيين محرومون من الحكومة، فإن الصهاينة سيواصلون جرائمهم في الأراضي المحتلة.
والحرب الحالية لن تحرر فلسطين ولن تنتهي بهزيمة كبرى للکيان الإسرائيلي، لكنها لقنت الصهاينة درساً قاسياً، مفاده بأنهم لا يستطيعون فرض إرادتهم دائماً على الفلسطينيين كما يحلو لهم.
وبالنظر إلى كل ما سبق، فإن الحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في حين أن سكان غزة يعيشون تحت وطأة الهجمات الصهيونية الواسعة والحصار اللاإنساني لهذا القطاع، ويعانون كل يوم من الموت التدريجي والإبادة الجماعية والبرد والجوع، ما هو إلا خداع واضح، لأن الغرب لم يتخذ أي إجراء جدي للضغط على المحتلين لإنهاء الحرب، وبدلاً من إيقاف آلة القتل الإسرائيلية في غزة، أشعلت أمريكا حرباً في البحر الأحمر دعماً لهذا الکيان.
كما تحاول الدول العربية إزالة العبء الثقيل عن كاهلها بدعمها الواضح لتشكيل الدولة الفلسطينية، وتمهيد الطريق لتطبيع العلاقات مع تل أبيب، والتخلص من قضية القدس إلى الأبد.
لقد قدّم الشعب الفلسطيني تضحيات كبيرة في الأشهر الماضية، وأثبت أنه يتمتع بالذكاء الكافي لعدم الانخداع بمثل هذه الحيل، وعدم السماح للجهات الأجنبية بأن تقرر مصيره.