والسبب في ذلك، هو ظهور حركات المقاومة المنبعثة من خطاب مناهضة الاستكبار والصحوة الإسلامية لثورة 1957 الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة، والتي أظهرت ثمار هذه الشجرة القوية.
وفي الواقع، يمكننا أن نرى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تفتح البذور التي زرعت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران في جميع أنحاء المنطقة، من لبنان وفلسطين إلى اليمن والعراق وسوريا، ليظهر الطريق الصحيح ولكن الصعب والوعر الذي يسير عليه الشعب الإيراني، للوصول إلى قمة العزة والشرف والتقدم، رغم العداوات الخارجية المختلفة.
ومن مظاهر ذلك، القوة الوطنية وتحول إيران من دولة تابعة وفاعل هامشي في النظام الدولي قبل الثورة، إلى القوة الأولى في المنطقة، ومن دون مبالغة العامل الحاسم الرئيسي في عملية التطورات الإقليمية.
من المؤكد أن خصائص الخطاب المشترك لحركات المقاومة في المنطقة، مع روح وأيديولوجية الثورة الإسلامية الإيرانية، لها أبعاد مختلفة، لكن عندما يتعلق الأمر بمسألة التطورات الإقليمية والاستراتيجية الإقليمية لمحور المقاومة، تتجلى مناهضة الاستكبار في مبدأين: 1- مواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية و2- هدف تحرير القدس والقتال حتى القضاء الكامل على الکيان الصهيوني باعتباره ورماً سرطانياً في المنطقة، أكثر من أي مؤشر آخر.
كانت هذه العناوين مثلًا عظيمةً جدًا، لدرجة أنه حتى خلال العقود الأربعة الماضية، اعتبر الكثيرون تحقيقها مستحيلًا وبعيد المنال، ولهذا السبب قدّموا تيار المقاومة كلاعب غير قابل للتصالح مع النظام الدولي التابع للقوى المهيمنة، والذي لن تؤدي سياساته إلى أي إنجازات أو خلق قوة، بل دفع الثمن فقط.
وبالطبع، في هذا الطريق الصعب، تكبد الشعب الإيراني وحركات المقاومة تكاليف باهظة، بسبب الصمود والإصرار على المثل العليا، وربما هناك تكاليف أقل بکثير دمرت العديد من حركات الاستقلال والثورات حول العالم، أو أجبرتها على الاستسلام والتسوية.
لكن الإخلاص وأداء الواجب والإيمان الصادق بعون الله في السير على طريق الحق والشهادة، والتي كانت السمات الروحية والسلوكية المشتركة لقادة ومقاتلي وشهداء محور المقاومة مثل اللواء قاسم سليماني، استطاعت أن تتغلب على العداوات.
وينبغي النظر إلى عملية طوفان الأقصى على أنها تجلٍ لإنجازات الثورة الإسلامية الإيرانية، وتحقيق الرؤية المناهضة للاستكبار في خطاب المقاومة، على المستوى الموضوعي للتطورات الإقليمية وحتى العالمية.
عندما ظهرت للتو حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، المستمدة من مُثُل الثورة الإسلامية الإيرانية، لمواجهة عدوان واحتلال الکيان الصهيوني، وكان يشتدّ عودها، فإن الصهاينة الذين يفتخرون بهزيمة الجيوش العربية المشتركة عدة مرات، ووصفوا جيشهم بالجيش الذي لا يقهر، بالإضافة إلى احتلالهم أجزاءً من لبنان، كانوا يوسعون نطاقهم التوسعي في الأراضي الفلسطينية يوماً بعد يوم.
في تلك الأيام، لم يكن أحد يصدق أن هذا الجيش الذي بدا أنه لا يقهر، مع كل الدعم الواسع من الغرب، سوف يعجز أمام أي من مجموعات المقاومة، والضربة التي وجّهت لنهاية أسطورة "إسرائيل" التي لا تقهر، والتي أطلقها حزب الله عام 2006 بحرب الـ 33 يوماً، طورتها عملية طوفان الأقصى إلى ضربة لانهيار الکيان الإسرائيلي وتدميره بالكامل، وقرب تحقيق هدف تحرير القدس.
واليوم، لم يعد انهيار الکيان الإسرائيلي وتدميره فكرةً بعيدة المنال، وحتى القادة والمسؤولون الغربيون والصهاينة يعترفون بذلك، وبينما حاول خطاب التسوية عزل الثورة الإسلامية الإيرانية طوال 4 عقود، لتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية هامشية ومنسية، تظهر تطورات اليوم أن المقاومة لم تصبح القوة الدافعة والفاعل الرئيسي للتطورات الفلسطينية فحسب، بل تسببت عملية طوفان الأقصى أيضًا في توسيع نطاق تأثير هذه النظرة الخطابية التي انبثقت عن الثورة الإيرانية، لتظهر نفسها في جميع أنحاء العالم، وتهتف بها الشعوب في قلب أوروبا وأمريكا أيضًا.
لقد تجلى فشل سياسة عزل وحصار إيران الثورية بشكل كامل في التطورات الجارية في المنطقة والعالم من زاوية أخرى أيضًا، وهي اضطرار الولايات المتحدة إلى الانسحاب من المنطقة، وفقدان هيمنتها في الخليج الفارسي والتطورات العالمية.
فعلى مدار أربعة عقود، زادت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في المنطقة، وأنشأت قواعد عسكرية حول حدود إيران، وفرضت بموازاة ذلك جميع أنواع الضغوط السياسية والاقتصادية والدعائية والعسكرية، بهدف الاحتواء الشامل لإيران بعد الاستقلال، لمنع صعود هذا اللاعب الموهوب حديث الولادة ذي الخطاب الجديد والقوة الناعمة المثيرة للإعجاب.
ذلك أن توسع نموذج الثورة الإسلامية في إيران، كان سبباً في تعريض مصالح الولايات المتحدة غير المشروعة في مختلف أنحاء المنطقة، وخاصةً في الخليج الفارسي، للخطر بشكل كامل.
ولكن رغم كل هذه العداوات، في الذكرى الخامسة والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان من آثار ونتائج طوفان الأقصى إظهار تراجع قوة الولايات المتحدة وهيمنة الغرب على ساحة التطورات الإقليمية والدولية، ومن ناحية أخرى عكس مسار الأحداث لتصبح القوة الرائدة لإيران.
في المواجهة بين الثورة الإسلامية والولايات المتحدة، أصبح ثقل النفوذ الإقليمي لإيران يتغلب الآن بشكل كامل على القوة الصارمة للولايات المتحدة، وعلى الرغم من وجود العشرات من القواعد العسكرية، فإن الجنود الأمريكيين ليسوا آمنين في أي مكان في المنطقة، وبعد الخروج المشين من أفغانستان، أصبحت هذه الدولة الآن مهددةً بالطرد من سوريا والعراق، وسيتضاءل وجودها في جغرافية المنطقة بأكملها في المستقبل.
ومن ناحية أخرى، بينما أثبتت الحرب في أوكرانيا أن إيران أصبحت لاعباً مهماً ومحورياً في تحديد مسار التطورات العالمية، فقد أظهرت عملية طوفان الأقصى هذه المرة أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تتمتع بشبكة قوية من الحلفاء في جميع أنحاء العالم، وبذلك فقد تم سيطرتها على المنطقة بأكملها، من مضيق هرمز في الخليج الفارسي إلى باب المندب في البحر الأحمر، وإلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.