محاولة نتنياهو لملمة أوراق مجلس حربه المبعثرة، عبر الخروج في مؤتمر صحافي مشترك مع غالانت وغانتس، بعد الفشل السابق في عقد مؤتمر صحافي موحَّد، قبل يومين، تُعيد إلى الواجهة حقيقة الشرخ المتصاعد في مجلس الحرب الإسرائيلي، ومدى تأثيره في الميدان من جهة، ثم خلفياته السياسية على مستوى التماسك الداخلي، وما يتم تداوله عن خلاف مع أميركا، إذ لم يعد الخروج في مؤتمر صحافي كافياً للتعبير عن وحدة الميدان، وخصوصاً أن هذا الظهور الشكلي هو تعبير عن خلاف حقيقي يراد تجاوزه.
اعترف المتحدث باسم "جيش" الاحتلال بأن العملية في شمالي غزة لم تحقق أهدافها بعدُ، في وقت سحب هذا "الجيش" 70% من دباباته وآلياته من شمالي غزة نحو خان يونس، وحرص على تغطية هذا الانسحاب بمجازره المعتادة، وهذه المرة في دير البلح وخان يونس والشجاعية، في تعبير صارخ عن مدى الإرباك الميداني، الذي لا يمكن فهمه إلّا في سياق التعثر العسكري في مواجهة مناعة المقاومة واستعصائها، والخلل المتصاعد في إدارة الحرب إسرائيلياً.
أين يكمن السر في إدارة الحرب الإسرائيلية التائهة في شوارع غزة الرملية؟ هل هي نتاج عقم في الإدارة العسكرية؟ أم هي تناقضات الزعماء إسرائيلياً، وربما أميركياً؟
بات من المجمع عليه عالمياً، وحتى إسرائيلياً، أن كل مجزرة وحشية جديدة تعكس أزمة في إدارة الحرب. وكل أزمات الكيان العبري، اليوم، سببها الأول التصدع في مجلس الحرب، وهو في الأساس مرتبط بالشرخ السياسي وربما الأيديولوجي، السابق للسابع من أكتوبر.
وبالتالي، فإن الفشل الاستراتيجي للكيان يتعمق مع كل متر إضافي تغوص فيه دباباته في شوارع غزة، حتى عندما تحتمل المواجهات تدمير المقاومة للعشرات منها كل يوم، سواء نجحت "إسرائيل" في إخفاء خسائرها البشرية، أم اضطرت إلى البوح بالقليل منها، واعترفت الثلاثاء بمقتل 7 من ضباطها وجنودها حتى الآن.
اتساع الشرخ ليطال حزب الليكود أصبح حقيقة بعد أن كان مجرد تكهن، في وقت مالَ نتنياهو إلى صبيانية بن غفير، وجشع سموتريتش وهو صاحب خابية مليارات العالم التي وصلت إلى "تل أبيب"، وأنقذت الشيكل من السقوط، وبدلاً من أن تغطي رواتب مئات الألوف من جنود قوات الاحتياط، ومعهم جيوش المرتزقة، والذين اضطر الكيان إلى تسريح بعضهم، أخذت هذه المليارات طريقها نحو جيوب مؤسسات الصهيونية الدينية، ومعها أفواه "الحريديم"، التي لا تشبع، الأمر الذي تسبب باستقالات في الليكود، وقد صدمها أن ينشغل نتنياهو بإشباع الاستيطان والمتدينين، و"الدولة" في حالة حرب.
امتنع غالانت عن مشاركة نتنياهو في مؤتمره الصحافي، فكيف الحال مع غانتس؟ وهو المستفيد الأول من تصاعد الشرخ، في وقت تصب استطلاعات الرأي الإسرائيلية، في أغلبية شعبية لغانتس، بنسبة غير مسبوقة في تاريخ الكيان، الأمر الذي دفع نتنياهو إلى الاعتراف بها، لكنه أضاف أنه يحكم الدولة بنتائج انتخابات، وليس قراءة استطلاعات، ونسي أنه فاز في انتخابات متدحرجة، عقب أربعٍ سبقتها خلال عامين.
يحافظ الكيان الإسرائيلي على تماسكه العام حتى الآن، على وقع استشعار خطر الزوال مع عبور السابع من أكتوبر، لكن كابينت الحرب، إذ يفشل في إقناع أهالي الأسرى في غزة بخططه، وخصوصاً بعد الفوضى التي دبت، عندما أخبر نتنياهو هذه العوائل بعدم القدرة على إعادة جميع الأسرى، فخرج أفرادها من الاجتماع مذعورين من هول ما أُلقي في روعهم، على نحو يفتح المجال ربما للشارع الإسرائيلي لأخذ زمام المبادرة، فلم يكن رقم 125 ألف متظاهر في الأمس كافياً لفرض معادلة تبادل الأسرى الكلي الفوري.
إذاً، هي معادلة تتطلب ضغطاً أكبر، هذا ما فهمه هؤلاء بالضرورة، وهذا ما سيزيد في تصاعد الأزمة الداخلية.
نتنياهو، إذ، يدير ظهره لعوائل الأسرى في غزة، في ظل خلافاته العميقة مع أركان مجلس الحرب، وإن على خلفية مغايرة، أرجأ البحث في قضيتين جوهريتين أخريين في اجتماعه الليلة، على رغم أن الأول فيها بطلب أميركي، يتعلق بإدخال المواد الغذائية والطبية لغزة، والثاني بطلب من المنظومة الأمنية الإسرائيلية، من أجل إدخال عمال فلسطينيين من الضفة للعمل في داخل الكيان.
وأحالهما نتنياهو على اجتماع الحكومة، كأنه بذلك يختار مهرجي الصهيونية الدينية على أركان مجلس الحرب، وهو بهذا يدفع الخلافات إلى الأمام.
تصاعد الخلافات الإسرائيلية بشأن قضايا جوهرية، في وقت يعلن "الجيش" الإسرائيلي أنه يخوض اليوم أعنف معاركه منذ بدء الحرب، يشير إلى الخيارات المتاحة وقد أخذت تضيق، وخصوصاً أن "الجيش" بات يعمل في داخل جباليا، بحسب زعمه، كما أنه انتقل إلى المرحلة الثالثة من هجومه البري، في وقت يقول إن الموارد التي وفرتها أميركا، للتغلب على الأنفاق، عبر غمرها بالمياه، تشبه الخيال العلمي، واعترف بأن ما يواجه قواته تحت الأرض مدناً، وليس مجرد أنفاق متشعبة.
يقف الكيان الإسرائيلي على أعتاب الشهرين من حربه ضد غزة، كما ضد جنين، التي عدّتها "واشنطن بوست" غزة الصغرى، لم يفلح فيهما في كسر قواعد الحرب، لأن مجلس حربه ما زال يقاتل من دون استراتيجية مقنعة لعوائل أسراه، ولا هي خارج الاصطفافات السياسية السابقة، ولا هي مجدية في الميدان. كما يصرح الأميركي صبح مساء بأن ثمة خلافات مع "تل أبيب"، وخصوصاً بشأن استمرار التسبب بمقتل المئات من المدنيين.
تشبث نتنياهو بخياراته الشخصية بدأ يطغى على أتون الحرب، على رغم تراجع هذا التشبث في الأسابيع الماضية، وإن ظاهراً، كون الإجماع الإسرائيلي على الانتقام من غزة كان سيد الموقف.
أمّا وأن نتنياهو لم يعد في مقدوره إخفاء منحاه الشخصي طوال الوقت، فإن مجلس الحرب الإسرائيلي معّرض لخطر التفكك، وخصوصاً إذا تصاعد حراك ذوي الأسرى الإسرائيليين في غزة، الأمر الذي سيوفر فرصاً مزدوجة لمعارضي استمرار الحرب الصامتين للبوح بمخاوفهم، كما لتيار لابيد المتربّص بنتنياهو للانقضاض عليه، عند أول لحظة يضعف فيها، وهي لحظة باتت أقرب من أي وقت مضى.