وفي سياق هذا التحرك الدبلوماسي المتناغم، شهدت الأيام الماضية زيارةً ذات دلالات عميقة قام بها علي لاريجاني، المستشار الأعلى للمرشد الأعلى للثورة في إيران، إلى سوريا ولبنان، حاملاً رسائل دعم حازمة من طهران لحلفائها الاستراتيجيين، وجاءت زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى دمشق لتؤكد وترسخ المواقف الاستراتيجية ذاتها.
وما لا ريب فيه أن توقيت زيارة الوفد العسكري الإيراني رفيع المستوى إلى دمشق، في خضم الأحداث المتصاعدة على الساحة اللبنانية، يحمل في طياته أبعاداً عسكريةً وأمنيةً بالغة الأهمية، ويندرج ضمن استراتيجية محددة المعالم، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتطورات المشهد الميداني الراهن.
في تصريحات إعلامية، أدلى الفريق نصير زاده ببيان مفاده بأن "سوريا تمثّل العمود الفقري لمحور المقاومة، وأن إيران، استرشاداً بتوجيهات القيادة العليا، على أهبة الاستعداد لتسخير كل إمكاناتها لدعم الدول الحليفة".
تُشكّل هذه التصريحات منعطفاً استراتيجياً في مسار العلاقات العسكرية بين طهران ودمشق، متجاوزةً مرحلة التعاون الاستثنائي إبان الأزمة السورية، لترسم آفاقاً جديدةً تهدف إلى تعزيز العمق الاستراتيجي واللوجستي لقوى المقاومة، وعلى رأسها حزب الله، في مواجهة التحديات الإقليمية المتصاعدة.
وقد تبلور هذا النهج الاستراتيجي المتجدد في العلاقات العسكرية الثنائية بشكل رسمي وعملي، من خلال توقيع اتفاقية التعاون العسكري والأمني الشاملة في يوليو 2020، خلال الزيارة الاستراتيجية للفريق أول باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، إلى دمشق، وقد اكتسبت هذه الاتفاقية زخماً متصاعداً في ضوء تنامي السياسات العدوانية للكيان الصهيوني، ولا سيما عقب الاعتداءات الأخيرة على السيادة الإيرانية.
ومن أبرز المحاور الاستراتيجية لهذه الاتفاقية، التركيز على تطوير وتعزيز منظومات الدفاع الصاروخي السورية بدعم إيراني متقدم، حيث تعهدت طهران بتزويد دمشق بمنظومات دفاع جوي ذات تقنيات عالية، لتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة التهديدات الإقليمية المتزايدة.
وفي ظل المشهد الراهن، مع تصاعد حدة المواجهة في الساحة اللبنانية والتهديدات المتصاعدة ضد السيادة السورية من جهة، والتحول الجذري في معادلات الردع الاستراتيجي بين إيران والكيان الصهيوني من جهة أخرى، يُرجح أن يشهد تنفيذ بنود هذه الاتفاقية العسكرية تسارعاً غير مسبوق، ليصل إلى مستويات متقدمة في إطار زمني محدود، ما قد يُحدث تحولاً جوهرياً في موازين القوى الإقليمية.
حتى وقت قريب، كان محور اهتمام المسؤولين السياسيين والعسكريين في سوريا وروسيا، متمحورًا حول إعادة تأهيل القدرات الدفاعية السورية للتصدي للاعتداءات الجوية المتقطعة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، ومع ذلك، فإن التحولات الأخيرة قد غيرت الطبيعة الدفاعية لهذه الشراكة، حيث تركزت الجهود الآن على تجهيز الجيش السوري بالأسلحة الهجومية والاستراتيجية.
تشير بعض الأنشطة التي يقوم بها الکيان الإسرائيلي إلى مساعٍ لتغيير المعادلة الأمنية مع سوريا، بما في ذلك الجهود الرامية إلى نزع السلاح وإزالة الطابع العسكري عن المنطقة الخاضعة لسيطرة الأمم المتحدة وقوات فرض السلام (UNDOF)، وهذا الأمر قد ينبئ بإمكانية فتح جبهة جديدة من جانب هذا الکيان.
يشار إلى أن "UNDOF" كقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، تتولى مسؤولية الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار بين سوريا والاحتلال الإسرائيلي منذ حرب يوم الغفران في عام 1973.
لذلك، فإن تعزيز وتطوير القدرات الدفاعية السورية، يُعدّ أمرًا بالغ الأهمية في الوقت الراهن، فجراء الحرب الظالمة ضد الشعب السوري، تعرضت قدرة الجيش السوري العسكرية لتآكل كبير أو فقدان ملحوظ، ووفقًا لبعض التقارير، فقد جرت في السنوات الأخيرة عمليات تهدف إلى إعادة بناء هذه القدرات، من خلال تزويد الجيش السوري بأنظمة الدفاع الجوي الروسية المتنوعة، مثل صواريخ "SAM"، بما في ذلك "SA-2" و"SA-3" و"SA-5" و"SA-6" و"SA-8"، إلى جانب البطاريات "SA-17" و"SA-22".
في يناير من عام 2022، عقب زيارة وزير الدفاع السوري "محمود علي عباس" إلى العاصمة طهران، صرح "مهند الحاج علي"، عضو البرلمان السوري، في حديثه مع وكالة "العهد"، قائلاً: "تشهد المرحلة الراهنة مشاركة إيران الفعالة في تطوير الجيش السوري، وإعادة تأهيل بنيته التحتية، وتعزيز قدراته من خلال تزويده بأحدث أنظمة الصواريخ وصواريخ أرض-أرض، فضلاً عن منظومات الدفاع الجوي الإيرانية".
ومع ذلك، فإن النقص المستمر في هذه الأنظمة، بالإضافة إلى تقنيات الدفاع القديمة وغير الفعالة، لا يزال يشكّل عائقاً أمام قدرتها على التصدي بشكل كامل للاعتداءات الصاروخية التي تشنها الطائرات المتطورة التابعة للجيش الإسرائيلي، ما يحول دون تحقيق ردع فعّال، وقد بادرت القوات الإسرائيلية في سياق عدوانها الأخير، إلى توجيه ضربات مباشرة لمنظومات الدفاع الجوي السورية، الأمر الذي ألحق أضرارًا ببعض قدراتها.
في المقابل، حققت القوات المسلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، من خلال قيادة مقر الدفاع الجوي "خاتم الأنبياء"، إنجازًا ملحوظًا في مجال الاكتفاء الذاتي، حيث استطاعت تطوير وتصنيع أنواع متعددة من أنظمة الدفاع الجوي، وتمكنت من بناء شبكة متكاملة تشمل رادارات متقدمة متعددة المهام وصواريخ اعتراضية، تواكب أحدث التطورات التكنولوجية العالمية، وتشكل أنظمة "3 خرداد"، "مرصاد"، "تلاش"، "15 خرداد"، "مجيد"، و"دزفول"، بالإضافة إلى "باور 373"، أساس هذه المنظومة الدفاعية القوية ومتعددة الطبقات.
وقد أثبتت هذه الأنظمة فاعليتها في ساحة المعركة، حيث تمكنت منظومة "3 خرداد" من إسقاط الطائرة الأمريكية المتقدمة "غوغل هاوك (RQ-4N)" بواسطة صاروخ "صياد -2"، كما برهنت على قدرتها الفائقة في التصدي للاعتداءات الجوية الواسعة التي نفذها الكيان الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، ما يعكس تميزها ونجاعتها كعنصر دعم رئيسي للأمن القومي السوري.
في السنوات الأخيرة، انصبَّ اهتمام الكيان الصهيوني على مواجهة التحديات المتعلقة بالتطورات في الساحة السورية، ولا سيما تلك المتعلقة بالوجود العسكري الإيراني قرب حدوده، بالإضافة إلى نقل الأسلحة عبر الأراضي السورية باتجاه لبنان، ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود المستمرة، أخفقت تل أبيب في تحقيق أي نجاحات استراتيجية ملموسة في معالجة هذه المخاوف المتجذرة.
وفي هذا الصدد، صرّح "دانيال هاغاري"، المتحدث باسم القوات الإسرائيلية بأن القوات الصهيونية أصبحت تدرك استخدام حزب الله للأسلحة المصنعة في سوريا خلال هجماتٍ تستهدف الكيان".
ومن المؤكد أن هذا الاتجاه سيستمر في التصاعد، ويترافق معه تنامي العلاقات العسكرية بين إيران وسوريا، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى دفع الكيان الصهيوني إلى إعادة تقييم مخاوفه التقليدية حول التهديدات الأمنية التي تواجهها دمشق، نحو شحذ إنذاراته وبلورة استراتيجيات أكثر حذرًا.
وقد أشار "يوسي كوهين"، الرئيس السابق لجهاز "الموساد"، إلى أن الجيش السوري يُعدُّ القوة العسكرية النظامية الوحيدة التي توجد بشكل مباشر على الحدود مع الأراضي المحتلة، ما يضمن له امتلاك كتائب مدرعة وصواريخ بالإضافة إلى قوات خاصة، ما يجعله يشكل تهديدًا أمنيًا كبيرًا للكيان.
إن إلقاء الضوء على هذا التهديد في سياق المعادلات السياسية والعسكرية، يعتبر بمثابة تحويلِ بيدق في لعبة شطرنج معقدة، تكتنفها الأبعاد الاستراتيجية للصراع الدائر في المنطقة.