ورغم أن العديد من الدول الأوروبية دعمت جرائم الكيان الصهيوني في غزة بعد بدء الحرب على غزة يوم 7 أكتوبر، تحت تأثير السياسات الأمريكية، وتوجه كبار المسؤولين الأوروبيين إلى الأراضي المحتلة واحدا تلو الآخر لتشجيع القادة الصهاينة، ولكن مع تصاعد الجرائم الصهيونية في غزة، أدرك قادة الاتحاد الأوروبي تدريجياً حقيقة أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد وضعتا قبعتيهما على رأسيهما.
وفي الأشهر الأربعة الأخيرة لم يتمكن الزعماء الأوروبيون من اتخاذ موقف واحد بشأن الحرب في غزة أو التوصل إلى صيغة واحدة بشأنها، وبعد أن ظهر الخلاف في وجهات النظر، أدانت بعض الدول جرائم "إسرائيل" وأيدتها أخرى، فيما فضلت دول أخرى الحفاظ على مواقفها المتوازنة من الحرب.
تأثير الاحتجاجات العالمية
يبدو أن الحرب الأخيرة في غزة كسرت قاعدة الإجماع التي كانت سائدة في السابق بين الحكومات الأوروبية، وجعلت من الصعب على الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف واضح بشأن الصراع في غزة، والآن بات من الواضح أن موقف الاتحاد الأوروبي من حرب غزة على وشك أن يتغير، وقد أثرت عليه التطورات الداخلية والدولية.
أثار تصعيد تل أبيب للجرائم في غزة احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا ووسع الفجوة بين الرأي العام والحكومات. ولذلك كان لا بد من قيام السلطات الأوروبية بدبلوماسية جديدة وتغيير مواقفها بشأن الإبادة الجماعية في غزة من أجل إرضاء الرأي العام الذي تحتاجه في الانتخابات المقبلة، وكانت فرنسا رائدة في هذا الاتجاه أكثر من غيرها.
ومن ناحية أخرى، ومع امتداد الحرب في غزة إلى البحر الأحمر وتهديد أمن الملاحة الدولية، يحاول الأوروبيون، الذين عانوا أكثر من غيرهم من هذه القضية، إنهاء الحرب في غزة وإنقاذ الاقتصاد المنكوب من المعركة بين أمريكا والكيان الصهيوني، حيث انطلقوا للإنقاذ، وكان سببا في رأي هيمان أن الأوروبيين لم يشاركوا في التحالف الأمريكي، لأنهم رأوا تصاعد التوتر في البحر الأحمر إلى الضرر بتجارتهم البحرية.
ومن النقاط المهمة الأخرى التي كان لها تأثير في تغيير وجهة نظر الأوروبيين بشأن حرب غزة، التزام الاتحاد الأوروبي الذي لا جدال فيه بسياسات واشنطن العالمية، والذي أظهر مرة أخرى أن أوروبا ليس لديها هوية مستقلة عن الولايات المتحدة وتنفذ أوامر البلاد في المنطقة، وهذا الأمر لم يرضِ بعض المسؤولين الأوروبيين الذين يسعون إلى تحسين مكانتهم العالمية، ولهذا حاولت فرنسا أن تنتهج سياسة متوازنة ومستقلة عن باقي الغربيين بالابتعاد عن صراعات البحر الأحمر وعدم الدخول فيها وتركت اللعبة الخطيرة بين أمريكا وإنجلترا.
وحاولت بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا في السنوات الأخيرة تقليل اعتماد القارة الخضراء على مظلة حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة وإنقاذ نفسها من نير واشنطن، إلا أن الجهود الرامية إلى إنشاء أوروبا موحدة مع تشكيلات عسكرية مستقلة عن الناتو، الآن فقدت لونها وأصبحت زمام الأوروبيون في أيدي رجال دولة البيت الأبيض، الذين سيقتلونهم بأي طريقة يريدون. وتعمل القوة العسكرية المستقلة كرافعة وداعمة لقرارات أوروبا السياسية على المستوى القاري، ما دفع هذه الكتلة إلى تبني سياسة مستقلة عن واشنطن في كل الصراعات الدولية، ومع تزايد الخلافات بين الدول الأوروبية بشأن الصراع الفلسطيني والكيان الصهيوني، يبدو أن الاتحاد الأوروبي فقد الدور الدبلوماسي الذي كان من المفترض أن يلعبه.
وإنجلترا، التي تقوم بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في يناير/كانون الثاني 2020، بتعديل سياساتها مع واشنطن في كل الأزمات العالمية، واصلت هذه الاستراتيجية في حرب غزة، وكانت إنجلترا الشريك الرئيسي لأمريكا، حيث شاركت في التحالف البحري وكانت حاضرة بشكل رسمي في عدة هجمات على الأراضي اليمنية.
ورغم أنه لا يمكن اعتبار بريطانيا جزءاً من أوروبا الموحدة سياسياً واقتصادياً، فإن مواقف البلاد المتضاربة مع الاتحاد الأوروبي تظهر أن الانقسام في المعسكر الغربي أصبح أكثر حدة من أي وقت مضى، وتريد بريطانيا استعادة موقعها السابق في غرب آسيا من خلال المشاركة في التحالف البحري والهجمات على اليمن، وفي العقود القليلة الماضية، كانت إنجلترا تحت ظل الولايات المتحدة ومُنعت من لعب دور مهم في التطورات العالمية، لكنها الآن بعد أن خرجت من الاتحاد الأوروبي، تحاول استعادة نفوذها المفقود بمساعدة واشنطن، وهو يرى في حرب غزة فرصة لإظهار قوته.
تأثير الحرب الأوكرانية على التقسيم القاري في البحر الأحمر
يمكن أيضًا ملاحظة الاختلاف في الرأي بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة وإنجلترا في قصة الحرب في أوكرانيا، ورغم أن أمريكا والأوروبيين كانوا في بداية الحرب في أوكرانيا على جبهة واحدة ودعموا هذا البلد ضد روسيا بكل قوتهم، إلا أنه مع ظهور الآثار السلبية لهذه الأزمة على الاقتصادات الغربية، ظهرت الخلافات في الغرب، وتطالب فرنسا وألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية الأخرى باستئناف محادثات السلام بين كييف وموسكو، بل عرضت على الزعماء الأوكرانيين سياسة منح الأرض مقابل السلام، كما أن المجر لم توافق على العقوبات الغربية ضد روسيا وأظهرت أن أوروبا منقسمة وغير قادرة على اتخاذ قرار واحد بشأن الأزمة المحيطة بحدودها.
ولأسباب أمنية واستراتيجية يمكن القول إنه كان ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يحافظ على وحدته فيما يتعلق بأوكرانيا التي تنتمي إلى نفس البيئة الجغرافية الأوروبية، لكنه لم يتمكن من التوصل إلى توافق في هذه الأزمة، وكانت المصالح السياسية والاقتصادية مؤثرة في هذه الأزمة.
إن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا يزيد من أعباء الحرب على أكتاف الدول الأوروبية، فقد أنفقت الدول الأوروبية أموالاً كثيرة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة وتكبدت أيضاً الكثير من الخسائر فيما يتعلق بنقص الطاقة وتعويضها من البديل "مصادر أخرى غير روسيا"، وهذا يمكن أن يخلق انقسامات جديدة في الاتحاد الأوروبي في المستقبل وقد يواجه الاتحاد الأوروبي ظروفا صعبة.
لذلك، يحاول الأوروبيون، الذين هم على الخط الأمامي للحرب مع روسيا، التصرف بشكل أكثر عدوانية، لكن بالنسبة لإنجلترا وأمريكا، تحولت القصة بشكل مختلف، حيث انضمت إنجلترا، التي ليس لديها أي التزام تجاه الاتحاد الأوروبي، إلى السياسات العدوانية للولايات المتحدة في أوكرانيا، وفي العامين الماضيين، لم توقف مساعداتها لهذا البلد فحسب، بل أعلنت مؤخرًا عن نشر قوات عسكرية في أوكرانيا، ما أثار رد فعل حادا من قبل الروس.
وتريد إنجلترا البعيدة عن حدود روسيا وأزمة المهاجرين الأوكرانيين وأضرار الطاقة، إضعاف هذه الكتلة الاقتصادية وزيادة ثقلها السياسي والاقتصادي في التطورات الأوروبية والدولية من خلال الضغط على قادة الاتحاد الأوروبي للحصول على المزيد من المساعدات من خلال جر أوروبا إلى الحرب مع روسيا، حيث أخرجت الولايات المتحدة وإنجلترا الاتحاد الأوروبي من المعادلات الدولية وأدخلته في لعبة خطيرة لا يعرف إلى متى ستستمر، وكان الخاسر الرئيسي في هذه الساحة هم الأعضاء من الاتحاد الذين، بغض النظر عن العواقب ومصالحهم العامة، وقعوا في فخ واشنطن.
ويبدو أن قوة نفوذ الاتحاد الأوروبي ككتلة إقليمية قد تراجعت بشكل ملحوظ. لقد أثرت الأزمات العالمية وتغير وجهات النظر الأمنية والاقتصادية للدول الأوروبية بقوة على وحدة قرارات السياسة الخارجية لهذه القارة، وقد تجلت هذه القضية في حرب غزة الأخيرة. ولم يتمكن أعضاء الاتحاد الأوروبي من اتخاذ موقف موحد تجاه هذه الأزمة، فانضم البعض إلى دعم الفلسطينيين والبعض انضم إلى صفوف الداعمين لنظام الاحتلال، وتغلبت سياسة الأحادية على الوحدة الأوروبية، وهذا الاتحاد والتي يمكن أن تلعب دوراً وسيطاً في الصراع الفلسطيني المهمش عملياً.
وحسب بعض الخبراء، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يمر بمرحلة صعبة ومعقدة في تاريخه، وخاصة أن دخول أحزاب اليمين المتطرف إلى أوروبا قد يؤدي إلى إزالة إرث مؤسسي قوي في الاتحاد والانعكاس إن هذا الحدث سوف يؤدي إلى إضعاف قيمة الاتحاد الأوروبي، والعملة الموحدة، والإجراءات الأمنية التي أصبحت أكثر صرامة واعتماداً على البيئة الخارجية سوف يكون أمراً لا مفر منه، ولا تمتلك أوروبا أوراقاً قوية للتأثير بشكل مباشر على التطورات الدولية، لأن فعالية الكتلة الأوروبية في التعامل مع أزمات شرق البحر الأبيض المتوسط، والأزمة الأوكرانية، والصراع الفلسطيني، كلاعب مهم، اختفت.