ويبقى أن تتسلل إلى مستشفى في وضح النهار متنكرًا بزي مدني، وتستخدم بنادق كاتمة للصوت لاغتيال شبان ثلاثة، أحدهم يعاني من شلل نصفي وهم نائمون على أسرة المشفى، فهذه جريمة تفوق القتل مع سبق الإصرار والترصد، أو القتل العمد، هي باختصار اغتيال للإنسانية بعهودها ومواثيقها، وشكّلت هذه الجريمة في هذا التوقيت بالذات تصعيداً خطيراً، ينذر بما هو أسوأ، ولا سيما أنها جاءت في موازاة استمرار حرب الإبادة الصهيونية في غزة، والتي يُعدّ حصار المستشفيات واستهدافها وتدميرها، من أركانها الرئيسيّة، بهدف تدمير القطاع الصحي أولاً، وتكريس الوجه الدموي للعدو ثانياً.
تفاصيل جريمة الاغتيال المروعة
وأَظهر مقطع مصوّر رصدته كاميرات المراقبة في المستشفى لحظة تسلُّل بعض أفراد القوّة الخاصة بملابس الطواقم الطبية، وآخرين بزي نسائي وشيوخ وهم يجرّون عربة لذوي الاحتياجات الخاصة وعربة أطفال، قبل أن يشهروا أسلحتهم على الطواقم الطبية والمواطنين، بينما كانوا في طريقهم إلى الغرفة التي تواجد فيها الشبان، وعقب عملية الاغتيال وانتشار الخبر، شهد محيط المستشفى دوي إطلاق نار كثيف من قِبَل المقاومين، لكنّ القوات الخاصة كانت قد انسحبت من المكان بالتزامن مع اقتحام واسع نفّذه الاحتلال الذي كان جنوده عند مداخل المدينة.
رئيس قسم الجراحة في مستشفى ابن سينا أفاد بأن تلك القوات تنكرت بملابس طبية واقتحمت المستشفى، واعتدت على الطواقم الطبية والأمنية، وممرضين خلال عملية اغتيال جريح يتلقى العلاج، ومرافقين له.
وحسب والدة الشهيدين محمد وباسل الغزاوي كان ابنها باسل، في مستشفى ابن سينا جراء إصابته بشلل نصفي، متأثرًا بشظايا صاروخ كان قد أطلق عليه منذ ثلاثة أشهر، وقالت إن ابنها كان قد دخل المستشفى في 25 أكتوبر/ تشرين الأول جراء إصابته بشظايا صاروخ، أسفر عن إصابته بإعاقة في قدميه، كما تم استئصال جزء من رئته، حسب المصادر المحلية، فإن الشهداء الثلاثة، الشقيقين محمد وباسل الغزاوي، ومحمد جلامنة، الذين جرى إعدامهم في الغرفة، وهم نيام، لم تكن في حوزتهم أسلحة.
في وقت لاحق، عمّ الإضراب الشامل مدينة جنين ومخيّمها، وسط دعوات إلى النفير العام والردّ على جريمة الاغتيال، فيما شارك آلاف الفلسطينيين في تشييع الشهداء، مؤكدين المضيّ قدماً على طريق المقاومة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم كيان الاحتلال هذا النوع من الإجرام حيث تشبه هذه العملية تلك التي نفّذتها قوات الاحتلال الخاصة عام 2015، حين اقتحم جنودها «المستشفى الأهلي» في الخليل على هيئة مرافقين لامرأة حامل في وضع ولادة، وأعدموا الشاب عبدالله شلالدة، واعتقلوا ابن عمه.
ليست المرة الأولى.."التنكر" سلاح الكيان الفعال
رغم أن كيان الاحتلال الإسرائيلي دأب منذ قيامه عام 1948 على تنفيذ آلاف عمليات اغتيال وتصفيات جسدية في تعامله مع الفلسطينيين، فإن العملية الأخيرة تذكّر بعمليات أخرى لجأ فيها الكيان العبري إلى التنكّر؛ للتضليل والتنفيذ، كاغتيال المبحوح في دبي.
ومعتمدا الأسلوب نفسه، اغتالت مجموعة صهيونية محمود المبحوح، العضو البارز في حركة «حماس»، في 19 يناير (كانون الثاني) 2010، وأعلنت شرطة دبي آنذاك، أن إسرائيليين يحملون جوازات سفر أوروبية، بينهم امرأة، ضالعون في اغتيال المبحوح في أحد فنادق الإمارة، وفي التفاصيل، كان 12 من فريق الاغتيال يحملون جوازات سفر بريطانية لأشخاص يعيشون في "إسرائيل"، أما الجوازات المزوّرة الأخرى التي استخدمت فكانت فرنسية، وألمانية، وآيرلندية وأسترالية، وعرضت شرطة دبي شريط فيديو يتضمن تفاصيل كثيرة عن العملية، حيث يظهر فيه المبحوح وهو يدخل الفندق، وصور لوصول الضالعين في العملية لدى وصولهم إلى مطار دبي، والفندق الذي تمت فيه عملية الاغتيال، وأظهر الفيديو لقطات للشخص الذي خطط لعملية الاغتيال ويدعى بيتر، وهو فرنسي الجنسية، وقد غادر دبي قبل ساعات من التنفيذ، كما أظهرت لقطات لشخص آخر يدعي كيفن، وهو من بين العناصر الأساسية في تنفيذ العملية، وصوراً لعمليات المراقبة التي كان يقوم بها منفذو العملية، ولحظات وصولهم إلى بهو الاستقبال في الفندق قبل وصول المبحوح إليه، وكشف الشريط حينها عن جميع الاتصالات التي جرت بين أعضاء العصابة قبل تنفيذ عملية الاغتيال وكذلك لقطات من مطار دبي لدى وصول رئيس العصابة، وأظهر أيضاً صورة امرأة شقراء تتحرك بجواز سفر آيرلندي باسم جيل فولارد، وهي ضمن المشاركين في العملية، حيث كانت تدخل أحد المحال التجارية، وحسب التقرير، فإن أفراد العصابة تنكروا في زي التنس، وتنقلوا بين فنادق عدة وبقيت منهم مجموعة صغيرة داخل الفندق الذي نزل فيه المبحوح، كما عرضت فيديو للمبحوح في الفندق، وإلى جواره المتهمون يراقبون تحركاته.
موقف المنظمات الإنسانية من جرائم الكيان الغاصب
اعتبر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي ارتكب جريمة مزدوجة بتنفيذه جريمة إعدام خارج نطاق القانون والقضاء استهدف من خلالها ثلاثة فلسطينيين، أحدهم جريح، داخل مستشفى مدني في جنين شمال الضفة الغربية.
وشدد الأورومتوسطي على أن ما اقترفته القوات الإسرائيلية يمثل جريمة مركبة تعددت فيها انتهاكات قواعد القانون الدولي الإنساني، سواء باقتحام مستشفى مدني يحظى بالحماية، أو ارتكاب جريمة غدر عبر التخفي بزي الأطباء والتمريض والملابس المدنية، إضافة إلى تنفيذ جريمة إعدام خارج نطاق القانون والقضاء ضد أفراد لا يشكلون خطرًا على أحد، بمن فيهم شخص كان جريحًا بحالة الخطر، في وقت كان بإمكان القوة اعتقالهم، إلى جانب الاعتداء على الطواقم الطبية وترويعهم.
وقال المرصد الأورومتوسطي إن بيان جيش الاحتلال الإسرائيلي بشأن قتل الشبان الثلاثة يأتي في إطار استمرار استخدام ما حدث في السابع من تشرين أول/ أكتوبر لتنفيذ جرائم مروعة وانتقامية، مشددًا على أن تصفية جريح بحالة خطرة هو أمر ينتهك قواعد القانون الدولي الإنساني التي تفرض حماية للجرحى، ويشكل جريمة حرب، وكذلك الحال بالنسبة للغدر والتخفي بالزي الخاص بالأطباء والممرضين والمدنيين.
وأضاف إن هذه الجريمة امتداد لما يقترفه جيش الاحتلال الإسرائيلي من استباحة للمستشفيات والطواقم الطبية وانتهاك جسيم آخر للحماية الخاصة الدولية المكفولة لهما، تحت دعاوى ومزاعم لم تثبت صحتها.
وأشار المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى أن أكثر من 380 فلسطينيًّا قتلوا منذ أحداث السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي في الضفة الغربية وشرق القدس برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنين، منهم عدد كبير تعرضوا لعمليات إعدام ميداني.
فيما دانت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" اقتحام قوة خاصة من جيش الاحتلال (مستعربين)، مشفى ابن سينا في مدينة جنين، واغتيال ثلاثة شبان من بينهم مصاب يتلقى العلاج بقسم التأهيل في المستشفى، واعتبرت أن هذا الاعتداء جريمة حرب تعكس استهتار وتنكر القوة القائمة بالاحتلال "إسرائيل" بالقوانين والأعراف الدولية التي تضمن حصانة المرضى والمصابين وحرمة المستشفيات باعتبارها أعيان مدنية محمية، علمًا بأن الشبان الثلاثة لم يكونوا مسلحين لحظة اغتيالهم.
من جانبه علق مدير مؤسسة «الحق» لحقوق الإنسان شعوان جبارين، على جريمة الاغتيال داخل أحد المستشفيات في الضفة الغربية، مؤكدًا أن التخفي بملابس الأطباء والممرضين هو تعريض مباشر للأطباء للخطر، وأن ما قامت به القوة الخاصة الإسرائيلية، «عمل عصابات»، وليس عمل جيش نظامي كما يدّعي كيان الاحتلال.
اتفاقيات جنيف
لا بد هنا من التطرق لبنود اتفاقيات جنيف 1949 والتي تضم أكثر القواعد أهمية للحد من همجية الحروب، وتوفر الاتفاقيات الحماية للأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية (المدنيون, وعمال الصحة, وعمال الإغاثة) والذين توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية (الجرحى, والمرضى, وجنود السفن الغارقة, وأسرى الحرب)، وتدعو الاتفاقيات وبروتوكولاتها إلى الإجراءات التي يتعين اتخاذها منعًا لحدوث كل الانتهاكات أو وضع حد لها، وتشمل قواعد صارمة للتصدي لما يُعرف بـ "الانتهاكات الخطيرة"، إذ يتعين البحث عن الأشخاص المسؤولين عن "الانتهاكات الخطيرة"، وتقديمهم إلى العدالة، أو تسليمهم، بغض النظر عن جنسيتهم.
جريمة الكيان الصهيوني بحق جرحى مستشفى ابن سينا تندرج تحت اتفاقية جنيف الأولى هذه الاتفاقية تمثل النسخة المنقحة الرابعة لاتفاقية جنيف بشأن الجرح والمرضى وتعقب الاتفاقيات التي تم اعتمادها في 1864, و 1906, و 1929 وتضم 64 مادة، ولا تقتصر هذه الاتفاقيات على حماية الجرحى، والمرضى، بل تشمل أيضا موظفي الصحة، والوحدات الدينية، والوحدات الطبية، ووسائل النقل الطبي، كما تعترف الاتفاقية بالشارات المميزة، وتضم ملحقين اثنين يشملان مشروع اتفاق بشأن مناطق المستشفيات، وبطاقة نموذجية لموظفي الصحة والدين.
ما الاتفاقيات الدولية والقوانين التي تحمي المستشفيات خلال فترات الحروب؟
تعتبر المستشفيات والمرافق الصحية، أماكن مدنية ولها حماية خاصة في القانون الدولي الإنساني أو "قانون الحرب"، وحسب القانون الدولي، فإن هذه المستشفيات يجب أن يتم احترامها وحمايتها وعدم استهدافها تحت أي ظرف من الظروف.
وحسب اتفاقية جنيف الرابعة التي تغطي كيفية حماية المدنيين خلال فترة الحروب، فإنها توسع مفهوم المرافق الطبية لتطال كل البنايات التي يوجد فيها مصابون أو مرضى، وتتم العناية بهم، وليس فقط المستشفيات، وحسب المادة 18 من هذه الاتفاقية، فإنها تنص على أنه "لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والأمهات هدفا للهجوم، بل يجب على أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات".
وحسب الاتفاقية نفسها، فإن أي خرق لحماية هذه المؤسسات الصحية، من خلال هجمات تؤدي لمفاقمة معاناة الموجودين في هذه المؤسسات، أو تتسبب في إصابتهم أو جرحهم تعتبر خرقا خطيرا للقانون الدولي أو جريمة حرب، ويمكن أن تؤدي بمن يقترفها إلى مواجهة تهم جنائية حسب القانون الدولي.
وحسب البروتوكولات الإضافية لاتفاقية جنيف سنة 1977، فهناك بنود تنص على حماية المستشفيات، حيث تنص المادة 12 على أن "الوحدات الطبية يجب أن تكون محمية، ويتم احترامها في جميع الأوقات، ولا يمكن استهدافها تحت أي ظرف".
وحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن المادة 8 منها تنص على "الهجوم المتعمد ضد مستشفيات وأماكن يوجد فيها أشخاص مرضى وجرحى، ولا يوجد دليل أنها أهداف عسكرية ما يعتبر جريمة حرب".
على افتراض وجود هدف عسكري داخل المستشفيات هل يسمح القانون الدولي باستهدافها؟
تصبح المستشفيات والوحدات الصحية خارج حماية القانون الدولي فقط "إذا تم استخدامها خارج وظيفتها الإنسانية واستعمالها لاستهداف العدو" وذلك حسب المادة 19 من اتفاقية جنيف الرابعة وحسب المادة 13 من البروتوكولات الإضافية لاتفاقية جنيف، ويشمل هذا الأمر "استخدام المستشفى كمأوى للمقاتلين أو الهاربين، أو كمخزن للأسلحة أو الذخيرة"، ومع ذلك، حتى لو استخدمت القوات المسلحة المستشفيات بشكل غير قانوني لإخفاء المقاتلين أو تخزين الأسلحة، فيجب على أي جيش مهاجم أن يصدر تحذيرا مباشرا للمقاتلين، ما يتيح لهم الوقت الكافي للامتثال لوضع حد لأي سوء استخدام، إذا كان هناك أي شك وعدم يقين لدى الجيش المهاجم، فلا تجوز مهاجمة المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى.
ولا يمكن لأي طرف أن يجبر مستشفى بأكمله يعالج المرضى والجرحى على الإخلاء، ولا يُسمح لأي طرف بالهجوم إلا بعد عدم الاستجابة للتحذير، كما يتعين عليهم إثبات أن المقاتلين كانوا لا يزالون موجودين داخل المستشفى قبل أي هجوم، يجب أن يتوافق أي هجوم مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني المتمثلة في التناسب والتمييز والحذر، والتناسب يعني أن أي خسارة في أرواح المدنيين يجب أن تكون متناسبة مع الميزة العسكرية المكتسبة، فالهجمات التي تكون فيها الخسائر في أرواح المدنيين وممتلكاتهم مفرطة مقارنة بالمكاسب العسكرية الملموسة والمباشرة هي هجمات غير متناسبة، وتصبح المخاوف بشأن الهجمات غير المتناسبة أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بالمستشفيات، لأنها مليئة بالأشخاص الضعفاء والمرضى والجرحى، وحتى الهجوم البسيط يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على حياة المرضى أو موتهم، أما التمييز، فيعني أنه يجب على أطراف النزاع في جميع الأوقات التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، ولا يجوز توجيه الهجمات إلا ضد الأهداف العسكرية.