الهاجس الأمني... الحلقة المفقودة في استكمال "طريق التنمية" العراقي
4 تشرين الثاني 2024 09:38
اسلام تايمز (العراق)- انقضى ما يربو على عام منذ إعلان العراق عن مشروعه الطموح المعروف بـ "طريق التنمية"، ولم تبدأ بعد الركائز الأولى لهذا الشريان السككي الممتد على مسافة 1200 كيلومتر.
الحكومة العراقية، التي تعقد آمالاً عريضةً وطموحات جمة على تنفيذ هذا المشروع الحيوي، لم تدخر جهداً في سعيها الدؤوب لإطلاق المرحلة التنفيذية، وقد كثفت من وتيرة المفاوضات وتشكيل اللجان التنسيقية مع الشركاء الدوليين.
في هذا السياق، وبالتزامن مع زيارة السيد محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، إلى العاصمة التركية أنقرة لإجراء مشاورات ومباحثات رفيعة المستوى مع نظرائه الأتراك حول هذا المشروع الاستراتيجي المشترك، انعقد يوم الخميس المنصرم الاجتماع الثاني لمجلس الوزراء الرباعي للدول الشريكة في مشروع طريق التنمية في بغداد.
وقد أسفر هذا الاجتماع الوزاري الرباعي، الذي يضمّ في عضويته كلاً من قطر والإمارات والعراق وتركيا، عن قرار بإنشاء هيئة تنسيقية عليا لإدارة العمل المشترك في مشروع "طريق التنمية".
وأفاد البيان الختامي للاجتماع بأنه تم إقرار تأسيس هيئة تنسيقية رفيعة المستوى لإدارة دفة العمل في مشروع طريق التنمية، فضلاً عن تفعيل آليات التعاون المشترك اللازمة لتنفيذ كل الأعمال المتعلقة بالمشروع، بما في ذلك إجراء الدراسات الفنية والهندسية المتخصصة، وتقديم الاستشارات اللازمة لاستيفاء جميع متطلبات هذا المشروع الطموح.
وأكد البيان بصورة جلية على الأهمية القصوى لتكثيف المساعي الرامية إلى تحقيق تعاون استراتيجي متكامل بين الدول الأعضاء، وذلك بهدف تحقيق التكامل المنشود في منظومات النقل وتوفير خيارات مجدية واقتصادية لحركة البضائع والمسافرين.
كما حثَّ البيان الدول الأعضاء على تجاوز مرحلة تبادل الخبرات إلى آفاق أرحب، عبر السعي الحثيث لاستحداث فرص تعاون مثمرة ووثيقة مع المؤسسات والهيئات الدولية، وفي مقدمتها مجموعة البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية، وغيرها من المنظمات ذات الثقل العالمي، وذلك بغية تعزيز مسيرة تحقيق الأهداف المرسومة لمشروع طريق التنمية.
ومن الجدير بالإشارة أنه في شهر أيار (مايو) من العام الجاري، شهدت الساحة الدبلوماسية حدثاً بارزاً تمثّل في توقيع مذكرة تفاهم رباعية رفيعة المستوى بين كل من قطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا والعراق، للتعاون في مشروع "طريق التنمية"، وذلك تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
ويتجلى طموح مشروع طريق التنمية في حجم الاستثمار العراقي الضخم البالغ 18 مليار دولار أمريكي، والذي يستهدف إعادة إعمار وتطوير ميناء الفاو الاستراتيجي، مع إنجاز الربط السككي المحوري بين العراق وتركيا، وتشييد قناة جافة عملاقة يمتد طولها إلى 1200 كيلومتر داخل الأراضي العراقية.
وقد تم تصميم هذا المشروع العملاق وفق رؤية استراتيجية طموحة، تهدف إلى إقامة جسر حيوي يربط القارة الآسيوية بنظيرتها الأوروبية، مع تيسير حركة التجارة والبضائع بين القارة الأوروبية ودول مجلس التعاون.
انجذاب مجلس التعاون نحو طريق التنمية
لقد شهد مشروع طريق التنمية الطموح انطلاقةً واعدةً من خلال التعاون الثنائي بين تركيا والعراق، إبان الزيارة التاريخية للرئيس أردوغان إلى بغداد في مارس 2023، بيد أن هذا المشروع الحيوي سرعان ما استقطب اهتمام الدول العربية المجاورة في منطقة الخليج الفارسي، لتنضم بدورها كشركاء استراتيجيين في هذه المبادرة الرائدة.
وفي سياق تطوير ميناء الفاو ذي الأهمية الجيوستراتيجية، حدث تحول جذري في مسار المشروع، ففي حين كان من المزمع في البداية إسناد هذا المشروع العملاق، الذي تُقدر قيمته بـ 4.6 مليارات دولار، إلى شركات أوروبية وآسيوية، فقد آلت مسؤولية تنفيذه في نهاية المطاف إلى مجموعة موانئ أبوظبي.
وتُوّج هذا التحول بتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية في 10 أبريل 2024 بين الشركة العامة لموانئ العراق ونظيرتها الإماراتية، بهدف الارتقاء بالبنية التحتية للموانئ وتعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة.
وعلى الرغم من التقديرات الأولية التي حددت تكلفة المشروع بـ 18 مليار دولار، فإن التوقعات الحالية تشير إلى احتمال تجاوز هذا الرقم ليصل إلى 24 مليار دولار، ويستند هذا التقدير إلى تحليلات الخبراء، التي تشير إلى أن تكلفة إنشاء خط السكك الحديدية الرابط بين غازي عنتاب، المدينة الواقعة في الجنوب الشرقي لتركيا، ومعبر أوفاكوي التجاري على الحدود التركية-العراقية، قد تصل وحدها إلى 5 مليارات دولار.
وفي ضوء هذه المعطيات، يتجلى بوضوح أن التقدير السابق البالغ 17 مليار دولار، كان دون المستوى الواقعي للمشروع.
وفي ظل هذه الظروف، يبرز الدور المحوري لدولتي الإمارات العربية المتحدة وقطر كشركاء أثرياء، ما يساهم في تبديد الشكوك حول قدرة المشروع على اجتذاب التمويل اللازم.
في هذه الأثناء، تلوح المملكة العربية السعودية في الأفق كشريك محتمل ذي ثقل، ولا سيما أنها قد مهدت الطريق منذ سنوات عبر إبرام اتفاقيات النقل البحري مع العراق، وقد تجلى هذا التوجه مؤخراً في إعلان إحدى الشركات السعودية، عن تدشين مسار بحري جديد يربط موانئ الدمام وأم قصر بميناءي نافا شيفا وموندرا، اللذين يعدّان من أهم المراكز التجارية البحرية في الهند، وقد صدر هذا الإعلان عن شركة "فلك مارين" للخدمات البحرية، إحدى الشركات التابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي.
وكشفت وكالة الأنباء السعودية (واس)، المصدر الرسمي للمملكة، عن إطلاق خط ملاحي جديد يحمل اسم " India Gulf Service" في الثلاثين من أكتوبر عام 2024، وفي إطار هذه المبادرة، تم تكليف السفينة "أستيريوس"، بقدرة استيعابية تصل إلى 1827 طنًا، بمهمة نقل السلع المستوردة من شبه القارة الهندية إلى ميناء أم قصر العراقي.
يحتل ميناء الدمام مكانةً مرموقةً في المشهد اللوجستي الإقليمي، إذ يُصنّف ضمن العشرة الكبار في منظومة الموانئ بغرب آسيا، وتتجلى أهميته الاستراتيجية في قدرته على مناولة ما يقارب 2.7 مليون طن من البضائع سنويًا، ما يجعله محورًا حيويًا في شبكة التجارة العالمية.
إن هذا التعاون البحري يأتي تتويجًا للاتفاقية الإطارية المبرمة بين السعودية والعراق في سبتمبر 2021، والتي تهدف إلى الارتقاء بمنظومة النقل البحري بين البلدين، وتضع هذه الاتفاقية نصب عينيها تعزيز الدور المحوري للموانئ وتحفيز إنشاء خطوط ملاحية مباشرة، تربط بين ميناء الملك عبد العزيز في الدمام وميناء أم قصر العراقي.
التحديات الأمنية حافز لابتكار مسارات بديلة
في خضم هذه التطورات، يبرز طريق التنمية كبديل استراتيجي يتفوق بشكل ملحوظ على الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي (IMEC)، الذي تم الإعلان عنه في سبتمبر 2023، وذلك من حيث سرعة النقل والقدرة الاستيعابية.
إن الميزة الفارقة التي يتمتع بها مشروع طريق التنمية، تتمثّل في وعده بتحقيق معدلات سرعة غير مسبوقة مع خفض التكاليف بشكل كبير. ووفقًا لتصريحات المسؤولين العراقيين، فإن هذا المسار الاستراتيجي سيؤدي إلى تقليص زمن نقل البضائع إلى الأسواق الأوروبية بما يصل إلى عشرة أيام، متفوقًا بذلك على المسار التقليدي عبر قناة السويس، وحتى على الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي (IMEC) الذي لا يزال قيد الإنشاء، وكنتيجة مباشرة لهذا التحسن الجوهري في كفاءة النقل، من المتوقع أن تشهد تكاليف الشحن انخفاضًا ملموسًا، ما سينعكس إيجابًا على حركة التجارة الإقليمية والدولية.
لکن قضية الأمن تبرز كالتحدي الأهم والمحوري الذي يكبّل هذا المشروع الطموح، ويقيّد آمال مهندسيه وتطلعاتهم، فما إن أُقرَّ هذا المشروع، حتى سارعت تركيا والعراق إلى توقيع اتفاقية تعاون أمني شاملة في شهر آب/أغسطس المنصرم.
ويرى خبراء الشأن الأمني أن هذه الاتفاقية تهدف بالأساس إلى التصدي المشترك للتهديدات المحدقة بمشروع طريق التنمية، وعلى رأسها الوجود المكثف لعناصر حزب العمال الكردستاني على امتداد الشريط الحدودي بين البلدين.
وفي سياق متصل، شهدت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى أنقرة تأكيداً متجدداً على أهمية التعاون الأمني بين الجانبين، وقد أشاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالفرص الواعدة التي يتيحها مشروع طريق التنمية، مشدداً على أن الجماعات الإرهابية تشكّل تهديداً مشتركاً لأمن البلدين، وأن المواجهة الحازمة والشاملة لهذه الجماعات، ستصبّ حتماً في مصلحة السلام والاستقرار الإقليمي.
وتجدر الإشارة إلى أن مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، كان قد أجرى في الأسبوع الماضي مباحثات رفيعة المستوى مع كبار المسؤولين الأتراك، بمن فيهم وزير الخارجية هاكان فيدان.
وعلى الرغم من الإرادة السياسية الجلية التي أبداها الطرفان للتعاون في مجابهة التحديات الأمنية، سعياً منهما لتهيئة مناخ استثماري مستقر يدعم مشروع طريق التنمية، إلا أن الهاجس الأمني لا يزال يشكّل عقبةً کبيرةً أمام منافسة هذا المشروع للمسارات الآمنة سريعة التطور، على غرار ممر الشمال-الجنوب.
رقم: 1170615