قراءة استراتيجية للمواجهة بين حزب الله والکيان الإسرائيلي في المرحلة الجديدة من الصراع
موقع الوقت التحليلي الإخباري , 25 أيلول 2024 09:06
اسلام تايمز (لبنان) - على الرغم من المساعي الدبلوماسية الحثيثة على الصعيد الدولي لاحتواء التصعيد على الجبهة الشمالية، إلا أن المغامرات الأخيرة للكيان الصهيوني داخل الأراضي اللبنانية - والتي تجلت في عمليات تفجير أجهزة الاتصالات واغتيال قيادات المقاومة البارزة - قد أججت نيران التوتر بين حزب الله وتل أبيب بشكل غير مسبوق، ويرجح المحللون أن يتطور المشهد من مجرد مناوشات حدودية محدودة، استمرت قرابة العام، إلى حرب برية شاملة ذات تداعيات إقليمية خطيرة.
وفي ضوء هذه التطورات المتسارعة، تبرز تساؤلات جوهرية حول الأهداف الاستراتيجية الكامنة وراء تصعيد القيادة الإسرائيلية المتطرفة للتوتر على الجبهة الشمالية، كما يستدعي الأمر إعادة تقييم دقيق لميزان القوى في ساحة المعركة، واستشراف مسارات تطور الصراع في ضوء الأهداف الاستراتيجية لكلا الطرفين.
ولتحليل هذه المعضلة الاستراتيجية المعقدة، يتعين علينا إجراء تشريح دقيق لمستويات الصراع المتعددة بين الطرفين، وتقييم مدى التناسب بين المكاسب المحققة والتكاليف الباهظة المتكبدة في هذه المواجهة المحتدمة.
ثلاثة إخفاقات استراتيجية لتل أبيب في تحقيق أهدافها
لا مراء في أن الكيان الصهيوني قد رسم لنفسه خارطة طريق محفوفة بالمخاطر في مواجهته مع حزب الله، متوهمًا أن الظروف الإقليمية المضطربة ستمهّد له السبيل لتحقيق مآربه.
في صدارة مساعيها، سعت الآلة العسكرية الصهيونية إلى تحقيق هدفين جوهريين: أولهما، إنزال ضربة قاصمة بالبنية العسكرية للمقاومة عبر تفجير منظومة من الأجهزة الإلكترونية المتطورة على الأراضي اللبنانيةـ وثانيهما، إحداث زلزال استراتيجي في الهيكل العسكري المحكم والعصري لحزب الله من خلال استهداف قياداته العليا، آملةً في تفكيك بنيته، أو شل قدراته العملياتية على أقل تقدير.
بيد أن الواقع الميداني، وفقًا لما أفصحت عنه وزارة الصحة اللبنانية، يكشف عن حصيلة مغايرة تمامًا لما خطط له الکيان، فقد أسفرت عمليتا التفجير عن استشهاد خمسة وعشرين شخصًا، مع إصابة المئات، غالبيتهم العظمى من المدنيين الأبرياء، في حين لم يتجاوز عدد شهداء حزب الله سوى بضعة أفراد.
في المشهد الدامي بالضاحية الجنوبية لبيروت، ارتقى ستة عشر من صفوة قادة حزب الله إلى مراتب الشهادة العليا، ورغم أن هذا الاستهداف قد يُعدّ في ميزان الكيان الصهيوني مكسبًا استراتيجيًا، إلا أنه يتضاءل أمام حقيقة جلية، وهي جيش عقائدي محترف يتجاوز تعداده المئة ألف مقاتل، صقلتهم بوتقة عشر سنوات من الصراع السوري الضاري.
إن سجل التاريخ الناصع يشهد أن حزب الله وسائر فصائل المقاومة لا تقوم على أفراد بعينهم؛ فكلما ارتقى قائد إلى عليين، برز خلفه آخر - غالبًا بكفاءة أعلى وعزيمة أشدّ - ليواصل مسيرة الجهاد والنضال ضد الاحتلال بإرادة فولاذية لا تلين.
أما المحور الثاني في هذه المعادلة المعقدة، فيتمحور حول العلاقة الجدلية بين الضربات الإسرائيلية على لبنان، والهدف الاستراتيجي لتل أبيب على الجبهة الشمالية.
إن الغاية القصوى والملحة للحكومة الصهيونية من وراء عملياتها متعددة الأبعاد على الأراضي اللبنانية، هي محاولة إرغام حزب الله على وقف عملياته في الجبهة الشمالية، واستعادة قوة الردع التي تآكلت بشكل دراماتيكي على مدار العام المنصرم.
وفي هذا السياق، يسعى مجلس الحرب الصهيوني - بكل ما أوتي من قوة - إلى إحداث تحول جذري في ديناميكيات المعركة، محاولاً الانتقال من الموقف الدفاعي والوقائي في مواجهة حزب الله، إلى موقف هجومي واستباقي، في مسعى محموم لاستعادة زمام المبادرة الاستراتيجية التي فقدها منذ أمد بعيد.
مع انقضاء ما يناهز العام على اندلاع نيران الحرب في غزة، يجد الكيان الصهيوني نفسه اليوم في موقف المشتكي من توسع نفوذ حزب الله في المنطقة العازلة المعروفة بـ"الخط الأزرق" ونهر الليطاني، وتعزيز موقعه العسكري على امتداد الحدود الشمالية مع الأراضي المحتلة.
وفي هذا السياق، تتضافر جهود قادة الجيش والحكومة الصهيونية في مسعى حثيث لكبح جماح عمليات حزب الله، آملين في إعادة المستوطنين الفارين إلى ديارهم، وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من 70 ألف مستوطن قد لاذوا بالفرار من منازلهم، مدفوعين بالهلع من عمليات حزب الله، الأمر الذي أفضى إلى نشوء أزمة متعددة الأبعاد - أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً - تلقي بظلالها الثقيلة على حكومة نتنياهو.
غير أن هذه المساعي الصهيونية قد باءت بالفشل الذريع، إذ لم تفلح في إيقاف عمليات حزب الله فحسب، بل شهدت الأيام الأخيرة توسعاً في نطاق استهداف المقاومة اللبنانية لمناطق جديدة في الأراضي المحتلة، بما فيها مدينة حيفا الاستراتيجية.
وفي تطور لافت، قام حزب الله (السبت الماضي) باستهداف المنشآت العسكرية التابعة لشركة "رافائيل" الصهيونية المتخصصة في إنتاج الأسلحة، مستخدماً صواريخ متطورة من طراز "فادي 1" و"فادي 2"، وفي السياق ذاته، أفادت وسائل الإعلام العبرية بتنفيذ ما يقارب 30 عملية إطلاق صاروخي، استهدفت مستوطنة "كريوت" في ساعات الصباح الباكر، ما أسفر عن اندلاع حرائق في عدد من المنازل.
إن التصعيد المتنامي للتوترات على الجبهة الشمالية، قد أفضى إلى تفاقم ظاهرة النزوح بشكل ملحوظ، وقد بلغ الأمر ذروته عقب الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، حيث أكد أن "تصرفات الكيان المحتل قد أسهمت في تسريع وتيرة تهجير الصهاينة، ما يجعل إمكانية عودتهم أمراً في حكم المستحيل"، هذا التصريح الحاسم قد وضع حداً لأي أمل في عودة قريبة للنازحين، وهو ما أقرّ به المحللون الإسرائيليون أنفسهم بكل صراحة.
وفي هذا المضمار، قدّم "أودي سيغال"، المحلل البارز في القناة 13 الإسرائيلية، تعليقاً لاذعاً على وعود نتنياهو بإعادة النازحين إلى شمال الأراضي المحتلة، متسائلاً: "ما زال السؤال الجوهري الذي يتهرب المسؤولون من الإجابة عليه قائماً: كيف يمكن لتأجيج نار التوترات، أن يسهم في تيسير عودة الإسرائيليين إلى ديارهم على الحدود اللبنانية؟"
ومن الجدير بالتنويه أن العمليات الإرهابية في لبنان قد منحت المقاومة هامشاً أوسع للمناورة، ما يتيح لها شن هجمات مستقبلية في عمق الأراضي المحتلة، فبينما كان حزب الله ملتزماً حتى الآونة الأخيرة بقواعد اشتباك محدودة، مقتصراً على تنفيذ عملياته ضمن نطاق 50 كيلومتراً داخل الأراضي المحتلة، فإن الکيان قد قدّم له الآن، عن غير قصد، المبرر الكافي لاستهداف أي نقطة يختارها داخل عمق الأراضي المحتلة.
وعليه، فإن الاتساع الملحوظ في نطاق هجمات حزب الله خلال الأيام القليلة الماضية، يعدّ مؤشراً جلياً على ثقة المقاومة الراسخة في قدرتها على الحفاظ على تفوقها في معادلة الردع مع الكيان الصهيوني، كما أنها ترى، وبكل وضوح، أن الصهاينة باتوا عاجزين تماماً عن تجاهل مواطن ضعفهم العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، في مواجهة احتمالية نشوب حرب شاملة مع لبنان.
من منظور آخر، شهدت الأشهر المنصرمة مساعي دؤوبة من قبل الوسطاء الغربيين، الذين مارسوا ضغوطاً متصاعدةً على صناع القرار اللبنانيين، في محاولة محمومة لتضييق الخناق داخلياً على الدعم العسكري الذي يقدّمه حزب الله لغزة، وكان مرماهم دفع المقاومة اللبنانية نحو انتهاج سياسة أكثر حذراً وتريثاً في تحركاتها، درءاً لإثارة موجة من السخط الداخلي، وتجنباً لنشوء شروخ سياسية عميقة.
إلا أن الفعل الإجرامي الشنيع الذي اقترفته "إسرائيل" مؤخراً، قد قلب الموازين رأساً على عقب، إذ لم يعد في مقدور القوى الغربية توجيه سهام الاتهام نحو حزب الله، وأضحت تبعات توسيع نطاق عمليات المقاومة، تقع حصراً على كاهل حكومة نتنياهو.
وعلى نقيض ما راهن عليه قادة الاحتلال، هبّ اللبنانيون بروح وطنية جياشة فور دوي الانفجارات لنجدة أبناء وطنهم، مسارعين للتبرع بدمائهم في محاولة للحد من الخسائر في صفوف المدنيين، وإن هذا التلاحم الشعبي والدعم الجماهيري اللبناني الصارخ لعمليات المقاومة ضد الأراضي المحتلة، يشكّل رافعةً معنويةً هائلةً لقوات حزب الله، مانحاً إياهم الطمأنينة والثقة اللازمتين لإدارة دفة المعركة.
کما أن التصريح الحازم للسيد حسن نصر الله، معلناً عزمه على الانتقام بوتيرة أشد وأنكى من ذي قبل - وهو وعد لا يخالج الصهاينة أدنى شك في حتمية تحققه - ويؤكد بما لا يدع مجالاً للريبة أن العمليات الإرهابية قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً في إعادة ترميم معادلة الردع لمصلحة الكيان الصهيوني، بل على النقيض تماماً، فقد أسهمت في تعزيز موقف المقاومة وتوسيع هامش مناورتها في هذه المواجهة المصيرية.
قصور القدرات العسكرية في خضم التخبط الاستراتيجي
كشفت الدولة العبرية، عبر هجماتها متعددة الأوجه الأخيرة على لبنان، عن تسرعها في استنفاد كل أوراقها الاستراتيجية في مواجهة حزب الله، وفي الوقت ذاته، تجد نفسها غارقةً في دوامة من الارتباك الاستراتيجي، عاجزةً عن تحديد الأهداف الجوهرية للحرب، أو إيجاد مخرج من أزماتها المتلاحقة، أو تحقيق أي نصر ملموس.
فعلى مدار العام المنصرم، أخفقت حكومة نتنياهو إخفاقاً ذريعاً في تحديد غايات واضحة للحرب على مختلف الجبهات، وباءت جميع مساعيها بالفشل في تحقيق أي إنجاز يُذكر على أرض المعركة.
كان الهدف المعلن للعدوان العسكري على غزة واحتلالها، هو استئصال شأفة حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين، بيد أن الواقع الراهن يشهد على استمرار حماس في السيطرة، وقدرتها على إطلاق الصواريخ من شتى أنحاء القطاع باتجاه الأراضي المحتلة.
وقد دفع هذا الوضع نتنياهو إلى تغيير بوصلة الأهداف الرئيسية للحرب في منتصف الطريق، متبنياً خيار احتلال القطاع الشمالي، كسبيل وحيد لتحقيق إنجاز ما في مواجهة المقاومة الفلسطينية، غير أن هذه الخطط والاستراتيجيات الجديدة، قوبلت بانقسام حاد بين الساسة والمسؤولين الأمنيين.
يرى كل من رئيس أركان الجيش ووزير الحرب الإسرائيلي، أن مواصلة الصراع ليست في مصلحة الكيان، مشددين على افتقار الحكومة لرؤية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، ومن منظورهم، فإن الإصرار على البقاء في محور "فيلادلفيا"، لن يسهم في تحقيق الأهداف المنشودة، بل سيؤدي فقط إلى تضخيم النفقات العسكرية، وفي السياق اللبناني، يبدو أن نتنياهو قد تصرف بتهور بالغ، إذ لا يزال يفتقر إلى استراتيجية محددة المعالم، توضّح ماهية أهدافه الحقيقية من وراء الانخراط في هذا الأتون المشتعل.
وفي الضفة الغربية أيضًا، حيث سعى الكيان الصهيوني جاهداً، عبر عملياته الواسعة في نابلس وجنين، إلى اجتثاث جذور المقاومة، باءت مساعيه بالفشل الذريع، فبعد أيام معدودة من العمليات العسكرية العمياء، عاد جنود الاحتلال أدراجهم صفر اليدين، دون تحقيق أي إنجاز يُذكر.
أما في البحر الأحمر، فقد أحكم أنصار الله اليمنيون قبضتهم، فارضين حظراً صارماً على مرور السفن الصهيونية، ما ألحق ضرراً بالغاً بالبنية الاقتصادية للكيان، وقد تجلى عجز الحكومة الحربية في مواجهة اليمن، بصورة أكثر سطوعاً عقب إطلاق صاروخ فرط صوتي استهدف مؤخراً عمق الأراضي المحتلة، مُظهراً هشاشة منظومتها الدفاعية.
وفي الآونة الأخيرة، بدأت تتبلور ملامح جبهة جديدة ضد الأراضي المحتلة في "غور الأردن"، ما أثار هواجس عميقةً وقلقاً متصاعداً في أوساط القيادة الصهيونية في تل أبيب.
لکن الأمر الأكثر خطورةً يتمثل في المواجهة المحتدمة مع حزب الله، الذي يفوق في قدراته وإمكاناته سائر فصائل المقاومة في المنطقة، فهذه المواجهة تنذر بعواقب وخيمة وتداعيات غير محسوبة على الكيان.
حيث إنه مع احتمالية سقوط وابل من الصواريخ في عمق الأراضي المحتلة، واستهداف شبكة البنى التحتية الحيوية، بما فيها منشآت الطاقة والكهرباء، والمجمعات الصناعية، والموانئ، والمطارات - وكلها تقع ضمن مدى صواريخ المقاومة الدقيقة - فإن الأراضي المحتلة ستجد نفسها غارقةً في أتون أزمة وجودية عميقة.
وفي المحصلة النهائية، يمكن القول إن نتنياهو، الواقع تحت وطأة ضغوط هائلة من قبل المعارضة الداخلية والعناصر المتشددة في حكومته، قد عمد إلى تصعيد حدة التوتر مع حزب الله وغيره من فصائل المقاومة، في محاولة يائسة للنجاة من دوامة الأزمات الأمنية المتلاحقة، وتعزيز اللُحمة الداخلية المتصدعة، غير أن هذه المناورات البائسة لم تُسفر عن أي بارقة أمل في تخفيف وطأة الأزمات الداخلية والخارجية، التي تعصف بكيان الاحتلال من جذوره.
رقم: 1162277